لا نقصد بالثابت والمتحول ذلك المعنى الأدبي الذي يتناول الاتباع والإبداع بل نشير إلى حالة الاقتصاد في السودان التي تسير في خط ثابت نحو ارتفاع تكاليف المعيشة خاصة لدى الطبقة المتوسطة التي أخذت في التلاشي جراء الوضع المتصاعد من انخفاض الدخل مع الارتهان لمرتبات تتميز بالثبات فيما تتحول أسعار السلع باستمرار نحو التصاعد. في أواخر عهد الرئيس الأسبق جعفر النميري (مايو) ظهرت بوادر الأزمة الاقتصادية وأُعلنت زيادات كانت قفزة في ذلك الزمان في أسعار المواد الغذائية الرئيسة مع زيادة في أسعار المحروقات وأدى ذلك إلى غضب الشارع السوداني وخرجت مظاهرات في مختلف أنحاء البلاد مطالبة بإسقاط النظام، وكان وقود هذه الثورات الأحزاب السياسية التي طرحت نفسها بديلاً لنظام فشل في تحقيق طموحات الشعب في حياة كريمة. وقد تميزت الفترة المذكورة بالنقد للنظام الاقتصادي الذي طبقته مايو ورسمت صورة لإمكانية العودة بالحياة إلى سابق عهدها من الرخاء النسبي مع تصورات محبي النوستالجيا الذين ظلوا يرددون أن الحياة قبل مايو كانت أفضل وأن الاستعمار شهد رخاءً أكثر من فترات الحكم الوطني بالعسكر أو المدنيين وهكذا اجترت فترات الماضي دون النظر إلى المستقبل فيما تصاعد المؤشر الاقتصادي دون رحمة إلى أعلى في تكاليف المعيشة. وتحدث المواطنون في فترة مايو عن الغلاء الطاحن والتحديات التي واجهت الأسر في التعليم والصحة وخاصة طبقات الموظفين والعمال والمعاشيين فيما كانت طبقات أخرى بعيدة عن حزمة الفقر مثل الأطباء والمهندسين ورجال الأعمال وكذلك الحرفيين الذي رفعوا أسعار خدماتهم تماشيًا مع الوضع الاقتصادي السائد وبذلك تفادوا الوقوع في براثن الغلاء. وكما هو معروف أدى الاحتجاج على نظام الحكم إلى السقوط المدوِّي لنظام مايو جراء الوضع الاقتصادي الذي لم تتمكن مايو من معالجة آثاره بصورة صحيحة على رأي الأحزاب التي تنافست بعد ذلك على الحكم بعد قيام مجلس عسكري التزم بحزم بتحويل البلاد إلى نظام ديمقراطي تعددي حسب طلب جماهير الانتفاضة. إلا أن الوضع الاقتصادي ظل في وضعه المتفاقم دون أن يجد التفاتة حقيقية من الأحزاب التي فوجئت بالحكم كما تتفاجأ المحليات كل عام بالخريف، ولم تتمكن من وضع رؤية مستقبلية تراعي الجانب العلمي لوضع حل لمعضلة الحالة الاقتصادية، وكذلك اتسعت دائرة الحاجة لدى الطبقات الأخرى التي كانت تظن أنها في منأى عن المس من جنون تصاعد الأسعار. وتمثلت الطامة الكبرى في خريف عام «1988» وما صاحب ذلك من فيضانات مدمرة أدت إلى حدوث مجاعة في بعض المناطق من السودان وخاصة العاصمة الخرطوم، بعد ذلك انفلت الزمام وشهدت الأسواق ارتفاعًا ملحوظًا لأسعار المواد الغذائية بصورة مضاعفة نتيجة الندرة وانعدام بعض السلع. وقد شهدت الفترة دوامة ندرة لبعض السلع في دورات متعددة فتارة تنعدم سلعة الكبريت وتارة السكر وتارة الشاي وتارة لبن البدرة وهلم جرا. كان عام «1988» نقطة تحول كبرى في حياة أهل السودان خاصة في المدن من حيث ارتفاع أسعار المواد الغذائية بشكل ملحوظ وقد تسبب مفهوم العامة عن الديمقراطية في هذا وظهر التخزين بغرض الاحتكار ورفعت الأسعار واشتهرت الفترة بمقولة (ما ننوم؟)؛ لأن السلع كانت ترتفع يوميًا وهي في أرفق المحلات التجارية وذلك خوفًا من عدم التعويض في حالة ارتفاع أسعار الجملة. واستمر مؤشر الاقتصاد السوداني في هبوطه المستمر رغم الجهود لوضع حلول مؤقتة نظرًا لعدم وجود تخطيط إستراتيجي يعمل على وضع حلول جذرية، وأيضًا لمعرفة الاقتصاديين والسياسيين بصورة واضحة خطورة الإقدام على جراحة كبيرة للاقتصاد خوفًا من ثورة الجياع وفقد التوازن والضياع لرفض الأغلبية للإصلاحات نتيجة عدم الثقة في السياسيين والنخب المتنفذة التي يرى الغالبية أنها عاجزة عن الإقدام لخطوة إصلاح حقيقية ترفع الغلاء وتحافظ على الوضع الاقتصادي مع مراعاة عدم تأثر الشعب بتبعات الإصلاح بصورة كبيرة، وترددت النخب من خطوة جريئة قد يفقدون بها الاستقرار في ظل أوضاع هشة في جانب تماسك النسيج الاجتماعي. وحاولت الإنقاذ في عام «1989م» وضع حلول جذرية أولاً حاربت التخزين؛ لأنه تسبب في الندرة والارتفاع المستمر للسلع ومنعت حيازة العملات الصعبة إلا أن المعالجة لم تحقق النجاح المتوقع، لذلك لجأت إلى عمل مؤتمر اقتصادي عام ضم كفاءات من مختلف الأيدولوجيات التي تنوء بها البلاد حتى اليوم، فخرجت توصيات تبنتها الحكومة المدعومة من قبل الشعب الذي شعر براحة بعد مواجهة تمرد الجنوب الذي وصل في العهد الحزبي إلى كوستي والدمازين متمددًا إلى الشمال بسرعة وثبات، ووفرت عمليات صيف العبور شعبية قوية للإنقاذ؛ لأن سلوك التمرد كان سلوكًا إقصائيًا مدمرًا لجأ من جرائه حتى من ادعى التمرد أنهم جاءوا من أجلهم من نيران حقدهم وكراهيتهم للمستقرين في المدن والقرى إلى شمال السودان. وفي ظل التحولات السياسية الكبيرة التي شهدتها البلاد ظل الاقتصاد في عناده وعجرفته غير مكترث بتلك الإصلاحات؛ لأنه ثابت علمي لا يحتاج إلى تغيرات أو تحولات بغير ما يحتاج إلى معالجات علمية قاسية مستندة إلى حقائق وأرقام وتحليلات وتنبؤات مبنية على فرضيات واقعية. ولكن البلاد تنفست الصعداء بعد دخول البترول في عجلة الاقتصاد وشهدت نهاية التسعينيات استقرارًا نسبيًا مع ارتفاع معدلات التنمية خاصة في مجال البنى التحتية التي جلبت السعادة للكثيرين في بقاع السودان مثل الجسور التي تمددت في ربوع البلاد ورفعت معدل التواصل الذي ظل يعاني فترات طويلة من بدائية السبل إلى أن تمكنت الضفاف من الالتقاء أخيرًا على مدار اليوم، وبطرق مهدت التقارب بين البقاع النائية. إلا أن عهد البترول شهد ارتفاع معدل ثقافة الديزل وتنامى قطاع الاعتماد على منتجات البترول ليرتبط الناس بحياة جديدة زادت تكلفة الحياة مع توفير سبل الراحة، وأصبحت ثقافة الديزل كما يسميها علماء الاقتصاد العالميون ويعنون به التحول إلى استخدام المركبات التي تعمل بالمحروقات عبئًا جديدًا على ميزانية الدولة وذلك بزيادة كبيرة في عدد السيارات من مختلف الماركات والأحجام وتصاعد الطلب على المحروقات، إلا أن الوضع كان مقبولاً إلى أن انفصل جنوب السودان الذي كان يمد البلاد شماله وجنوبه بالبترول نظرًا لوقوع أغلب حقول النفط في الدولة الجديدة. وعملت الثقة المعدومة بين السودان ودولة جنوب السودان وخاصة الحركة الشعبية على إقدام الأخيرة بإصدار قرار بوقف تصدير البترول وكانت الدولتان تقتسمان الدخل إضافة إلى توفير المادة الخام للاستهلاك الداخلي وبذلك فقدت الدولتان موردًا مهمًا وهو النقد الأجنبي إضافة إلى تأثير ذلك على الاستدانة من الخارج بضمان صادر البترول ومرة أخرى دخلت البلاد في مواجهة التحدي الاقتصادي ورغم الإجراءات الأخيرة المتمثلة في الإصلاحات الدستورية ورفع الدعم جزئيًا عن المحروقات مع استمرار دعم السلع إلا أن هذه الحلول أيضًا تثير المزيد من المخاوف لأنها حلول جزئية؛ لأن الدولة لا تزال مستمرة في الدعم لوجود شرائح ضعيفة في المجتمع لا تتحمل الرفع الفوري والكامل للدعم في مختلف السلع والخدمات كما ظل الحال هكذا في جميع الحقب. وما يثير الغرابة أن الاقتصاد ظل ثابتًا في معطياته إلا أن المتحول في كل مرة هو الحراك السياسي ومحاولة التخلص من الحكم القائم على أساس بديل آخر يتمثل في حركة سياسية جديدة فيما لا يتم التداول حول الوضع الاقتصادي والحلول المطلوبة لإخراج البلاد من أزمتها الاقتصادية.وما المانع في نظام اقتصادي نامٍ ومتطور يتحقق بتكاتف الجهود لسبر غور الأزمة وتحمل جماعي لأعباء الحلول الناجعة برؤية صائبة للمستقبل بدلاً من الانتهازية السياسية وطرح بدائل وطرق تم تجريبها.