في مثل هذه الأجواء الاقتصادية الضاغطة تنتعش ظواهر وأساليب الجشع التجاري والتهريب والاحتكار والتزييف والتزوير، ويطل المغامرون بوجوههم وأساليبهم غير المشروعة تحت الأستار وربما تتقوى هذه المجموعات الممارسة لمثل هذه الأنشطة بسلطان الدولة والمحسوبية، فالنظرية تقول إن خلف كل فاسد قوة تحميه وخيارات عديدة للمخارجة. ولأن حزمة القرارات الاقتصادية الأخيرة صاحبتها إثارة مشروعة وغير مشروعة فإنه من الطبيعي أن تنتفخ جيوب التماسيح وتتضخم القطط «السمان» ويتحكم التجار في معيشة الناس ويحكمون القبضة على رقابهم وتنتعش على الهامش أنشطة تجارية متطفلة تقتات في المساحة الفاصلة ما بين الدولة والمواطن وهي تلك المساحة التي لم تفلح الحكومة حتى الآن في ترويضها فظلت مسرحًا لكل ما هو خارج القانون، فبالأمس القريب سرت حالة من الهلع وسط المواطنين وبالأخص في منطقة أم درمان ومبعث الحالة ومكوناتها أن عددًا من المخابز خرجت من السوق في لحظة واحدة وأغلقت منافذ البيع السريع للمواطنين فظهرت وفي مدى زمني واحد عادة الصفوف، وأصبح المواطنون يهرولون ويبحثون عن سلعة الخبز ولكن سرعان ما عادت الأوضاع إلى طبيعتها واستقر الحال وهدأت النفوس.. ولكن يبدو واضحًا أن ثمة أزمة قادمة أو بالأحرى عبء جديد ينتظر الأسر ليضرب اقتصادها من جديد في أهم سلعة إستراتيجية ترتكز عليها الأسر السودانية في معيشها اليومي فقيرها وغنيها، وهناك سلع أخرى كالغاز والخضروات واللحوم والزيوت تتأهب الآن مع مقدم شهر رمضان وانطلاقة العام الدراسي الجديد لتزداد أسعارها ويجن جنونها وتخرج من السيطرة بفعل وممارسات الجشعين والمغامرين من التجار أصحاب السلطة والنفوذ والتأثير.. والقضية في حقيقتها تشير بجلاء إلى أن التحوُّلات التي تشهدها الدولة السودانية الآن على صعيدها السياسي والاقتصادي والأمني أن الحكومة في حاجة ضرورية إلى معالجة كل الثغرات وتقوية سلطانها وإعادة هيبتها على حقوقها والعمل على مكافحة الأنشطة التجارية غير المشروعة، ولا بد لها كذلك أن تصدر من القوانين والضوابط التي من شأنها تجرم حالات الاحتكار وتحد من انتشاره فالخبز كما يصنفه خبراء الاقتصاد والسياسة بأنه سلعة سياسية قبل أن تكون اقتصادية فكثير من الثورات التي انطلقت في بعض بلدان القارة السمراء على المدى القريب حركتها نفوس جائعة وعرفت فيما بعد بثورة الجياع، فالخبز سلعة تحرِّك كل الجائعين والفقراء وأصحاب الدخل المحدود والمأزومين والمحرومين والمرضى والمشرَّدين.. ولكن رغم حجم الضائقة الكبيرة التي يعاني منها الواقع الاقتصادي إلا أن وزارة المالية ما زالت تفكر في المزيد من القرارات الاقتصادية وبحسب التسريبات فإن هذه المالية ربما طلبت من رئاسة الجمهورية الموافقة على قرار جديد يقضي برفع الدعم عن الدقيق ومن هنا انطلقت حالة الهلع ظهر أمس.