لا شك مطلقاً أن هنالك، قضايا ظلت تمس مؤسساتنا المدنية، وقد أصبحت تؤرق مضجعها، وتعطل مسيرتها، وتهدر مواردها، يتمثل ذلك في بعض القوانين واللوائح التي ظلت تطبق في معظم أنشطتنا الاجتماعية وأخص منها الخدمة المدنية، وأعتقد أنها أضعف الحلقات التي كان يمكن أن تساهم في التنمية والتطور وتحقق طفرة بالبلاد في المجالات كافة، بأفضل مما هو قائم الآن. قبل أن أدلف إلى موضوع المقال لا بد من عرض هذه القصة التي تعكس وتصف لنا كيفية امتلاك ناصية التقدم والفلاح، حيث يُحكى أن السيد تشرشل القائد الإنجليزي المعروف طلب من أحد ضباطه كتابة تقرير في مسألة محددة، استمع الضابط إلى التعليمات وقام على الفور بتنفيذها، ثم عرضها على شرشل، فما كان منه إلا أن أعاد التقرير إلى الضابط بحجة أن التقرير ناقص وغير مكتمل، أعاد الضابط قراءة التقرير وعدل فيه ما يمكن أن يضبط التقرير ويجوده. ثم أعاد تقديمه للقائد، ولكنه فوجئ بأن السيد تشرشل أعاد له التقرير مرة أخرى واصفاً التقرير بالضعف والنقصان، رجع الضابط مرة أخرى وأعاد صياغته وقام بطباعته على الماكينة الطابعة بدلاً من الكتابة اليدوية، ثم سعى للتأكد من كل المعلومات الواردة في التقرير ولم يترك شولة أو نقطة إلا ووضعها، ثم أعاد التقرير إلى القائد، ولكنه أصيب بالدهشة عندما أعاد تشرشل التقرير واصفاً التقرير بالضعف ونقص المعلومات. وهنا انبرى الضابط للسيد تشرشل قائلاً أقسم لك سيدي القائد إنني لا أستطيع أن أفعل أفضل من ذلك، أرجو تكليف ضابط آخر يقوم بالمهمة.. هنا نظر إليه القائد تشرشل قائلاً «الآن فقط قبلت التقرير.. من هذه القصة المعبِّرة نستنتج أنه يجب على أي شخص وبالأخص العاملين بالخدمة المدنية، أن لا يُقدم دراسة أو يكتب تقريرًا أو يُقبِل على تنفيذ مهمة إلا بعد أن يبذل فيها كل ما يمكن أن يُبذل، بحيث لو طلب منه رئيسه مراجعتها، لإنبرى له في الحال وبكل ثقة طالباً أن يكلف شخصاً غيره، لأن ذلك أقصى ما يمكن أن يفعله، بهذا الفهم وهذه القيم وحدها نستطيع أن ننهض وننطلق بهذا البلد إلى الأمام. فهنالك عيوب تتميز بها خدمتنا المدنية من خلال الواقع المعيش. فمعظم المشروعات الخاصة والعامة في السودان، نجد أن الاهتمام بتجويد الأداء في بادئ الأمر قد يتحقق، ولكن من النادر الصبر والمحافظة على هذا الوضع الجيد،.. بل العكس حيث تبدأ معظم مشروعنا بحماس ويسعى القائمون بالأمر بتطبيق كل ما هو معلوم من فنون الإدارة. ولكن لا نلبث أن يهدأ الحماس ويتسلل الكسل وتقل المتابعة، وتبدأ رحلة التراجع حتى يحدث الانهيار التام للمشروع. ثم نبدأ من جديد في مشروع جديد دون تقييم لما سبق. أما العيب الثاني فيتمثل في بعض بنود القوانين واللوائح التي تنظم كل أنشطتنا. فمما يلفت الانتباه في تقييم أداء العاملين بالخدمة المدنية عموماً أنها تفتقر إلى العناصر التي تساهم في تحقيق العدالة والمساواة وتشجيع الإبداع، بل العكس تماماً. حيث نجد أن تقييم العاملين لا يتوقف على الأداء والإبداع والكفاءة وحدها، إنما على التقييم الشخصي للمدير المباشر، والذي لا يخلو من الغرض والعلاقات الشخصية والمحافظة على الكرسي من تغول المبدعين والناجحين!! بل يخضع للمزاج والهوى أحياناً. إذاً لماذا نظل نتعامل في هذا الأمر الحساس والهام والمرتبط بمستقبل تقدم البلاد من خلال نظم عفى عليها الدهر؟ لماذا لا يخضع تقييم العاملين على أسس ونظم علمية وعملية تحقق العدالة وتشجع الإبداع فتطمئن نفوس العاملين، ويغلق الباب أمام المتسلقين والانتهازيين على حساب المبدعين.. فمثلاً لماذا لا ندخل التكنولوجيا في تحديد المتسيبين والغائبين عن العمل، عبر النظم المعروفة التي تضبط ذلك في كل مؤسساتنا. ولماذا لا يتم تقييم أداء العاملين يومياً وفق نظام مبرمج معلوم يحدد درجات معينة وفق قياس المجهود المبذول للعامل، ودرجة الإبداع فيه وكمية الإضافة التي تحققت بغية الوصول إلى الهدف، إن كان ربحيًا أو ذهنيًا أو خلافه حيث تجمع هذه الدرجات نهاية الدوام ثم نهاية الشهر عبر نظام مبرمج يحدد درجات العامل نهاية العام وبشفافية تامة. يتم بموجبه تنفيذ الترقي والتحفيز، حيث لا مجال للمحاباة والمجاملة. ومع ذلك يُترك للمدير المباشر نسبة محددة غير مؤثرة للتقييم الخاص. ونعلم جميعاً أن برامج الحاسوب التي تضبط ذلك وتحقق تلك الأهداف أصبحت متاحة ومتيسرة. أما العيب الثالث فيتمثل في السلطات الهائلة التي يتمتع بها كثير من المديرين والمسؤولين، في بعض مؤسساتنا.. السؤال: لماذا لا نضع من النظم الإدارية التي تلزم المسؤول بمشاورة مرؤوسيه، خاصة في القضايا المالية أو القضايا الهامة المؤثرة.. ولماذا نترك كل السلطات بما فيها سلطة النقل التعسفي وغيرها من الأدوات التي كثيراً ما يستخدمها بعض المديرين لقمع المرؤوسين وبالتالي يؤدي ذلك إلى أن ينظر العامل إلى الفساد والخطأ ولا يستطيع أن يتفوه به. فتكون العاقبة ما نشاهده اليوم في بعض مؤسساتنا. نرى الخطأ والفساد ونصمت خوفاً من العواقب. أما العيب الرابع من الظواهر السالبة فهو «النهب المقنن» وهي الحوافز والبدلات الخرافية التي تُصرف «بالقانون» ولا شك أن من وضعها وهو ممسك بالقلم ينظر لمصلحته الشخصية ولمعاونيه فقط، أو تحت ضغط النقابات إبان فترة ما يسمى بالديمقراطية الثانية، فلا شك أن هنالك فوارق مدهشة بين دخل موظف عام وآخر، قد يصل الفرق إلى أكثر من «150» ضعفًا!! لماذا لا تضع الدولة حدًا أقصى للدخل السنوي الإجمالي كما حددت الحد الأدنى للأجور؟؟! هنالك أمر آخر لماذا لا يتم تقييم المسؤولين وفق ما حققه أو أخفق في تحقيقه من خلال الخطة المرسومة له، مع إدخال أدب المحاسبة في ثقافتنا الإدارية وما هي درجة الإبداع أو الإضافة الملموسة التي تمت خلال ترؤسه وغيرها مما يعين الإدارة العليا في اتخاذ قرار استمراره في العمل أو استبداله بآخر. ولماذا لا تحمي الدولة المديرين والمسؤولين في مؤسساتهم من تغول السياسيين وتدخلهم وتأثيرهم على كثير من القرارات غير المدروسة لا لشيء إلا لتحقيق وعد لناخبيه أو رد جميل لبعض عضويته في الحزب. أو لأسباب لا نعلمها الله يعلمها. تلك هي بعض آفاتنا التي ساهمت في تدهور الخدمة المدنية ولنا عودة.