دهشة وحسرة تملكتني ومعي بعض الزملاء ونحن نضع مدينة الدمازين بخضرتها وأجوائها الخريفية خلفنا، لتستقبلنا الروصيرص تلك المدينة التاريخية بدموع المطر واستحياء الشمس من إرسال أشعتها الحارقة كما تفعل في الخرطوم، فالمنظر عند مدخل مدينة الروصيرص يجعل الدواخل مفعمة بالأحاسيس المرهفة التي تجعل الأشعار تنساب وإن لم تكن من أهل الشعر، فكان هذا شعور الدهشة والحسرة، لأن مثل هذه المدينة بإمكانها أن تصبح مدينة سياحية من الطراز الأول، فالنيل يجري باطمئنان والخضرة تكسو المكان والمرتفعات الطبيعية تشكل لوحة سريالية في قمة الروعة. الروصيرص هذه المدينة التي شكت كثيراً من الإهمال في سنوات سابقة، بدأت الآن «تنفض» عنها غبار السنين لتزدان كالعروس في ليلة زفافها، وبدأت المدينة تعرف الطرق المعبدة والكباري وسط الأحياء وبدأت تكتشف جمالها وروعتها لتصبح المدينة الأجمل في السودان، وهي أهل لذلك إن وجدت المزيد من الاهتمام ووفرت فيها الخدمات المختلفة بدءاً من المياه التي تعتبر توأم «عصير الليمون» خاصة في هذا الفصل الخريفي الذي تتمتع به المدينة هذه الأيام، ولكن أكثر ما أدهشني هو تلك المدرسة التي شيدت منذ عهد الانجليز ومازالت تحافظ على قوامها الذي شيدت به في عام 1916م، ألا وهي مدرسة عمارة دنقس للأساس.. هذه المدرسة التي درس فيها الدكتور حسن الترابي وغيره من قيادات المنطقة السياسية والاجتماعية الآن، وخرجت العديد من الرموز الاجتماعية في زمن كانت فيه المدارس تعد على أصابع اليد الواحدة، فأعطت هذه المدرسة قيمة إضافية لهذه المدينة الفاتنة التي رسخت في ذهن الزميل ب «آخر لحظة» حافظ المصري الذي يزورها للمرة الأولي، فظل طيلة فترة الرحلة يتذكر الروصيرص وجمالها وقائدها الشاب خالد حسن إبراهيم الذي أثنى عليه البسطاء من أهله قبل أن تشكره حكومة الولاية، وهو ابن المدينة الذي يشارك أهلها الأفراح والأتراح ويزور المرضي ويتفقد شيوخها ورموزها، ولم يقبل خالد على سبيل المداعبة تشبيه الزميل صلاح باب الله كسلا بالروصيرص وقال له «الروصيرص هذه لا تشبهها بأية مدينة أخرى وإن كانت كسلا التي تربطك بها صلة النسب».. فضحكنا كثيراً ونحن نستمتع بأجواء ربيعية رائعة.