إن تكريم شركة »زين« للأستاذ محمد عبد الله الريح لإسهامه الفاعل في الدفاع عن بيئة الإنسان وترقيتها وبث الوعي البيئي بين السودانيين امر مستحَق عن جدارة، ذلك أن الرجل نذر حياته لحب الطبيعة منذ صباه الباكر حتى صارت له الطبيعة مهنة وتخصص تخصصاً دقيقاً في علومها. وللمحتفى به أسماء كثيرة موحية مما يدل على علوّ شأنه. فهو لأهل قريته »أبوزبد« في كردفان »خليفة« ود. عبد الله ود الريّح تيمناً بأحد آبائه خلفاء الختمية الذين هاجروا من منطقة السروراب شمال أم درمان قبل أكثر من مائة عام إلى أبي زبد. يلقب بخليفة ولا يعرفه كبار السن في قريته إلا بهذا الاسم المحبب تكريماً له. ومن أسمائه في مرحلة لاحقة »ود الريّح« وحساس محمد حساس. وكان خليفة تلميذاً عبقرياً وهو في مرحلة التعليم الأوّلي الأساس الآن في مدرسة »أبوزبد« الأولية لأوائل خمسينيات القرن الماضي. كان محباً للطبيعة مفْتوناً بحيوانها ونباتها وطيرها وزواحفها وحشراتها. وكان أبرز تلاميذ الصف وهو في السنة الرابعة لاسيما في حصة »الطبيعة« وحصة »الأعمال« اليدوية، وفي حصة الأعمال كان يبدع أشياء تدهش أساتذته فهو فنان مطبوع يجعل من الطين والصلصال كهيئة الطير أوالحيوان تماماً. وفي حصة الطبيعة كان بعبقريته الفذة وهو ابن عشر سنين أو أحد عشر عاماً يشرّح لزملائه في الصف الضفادع بكل ثقة وإتقان كأنما هو المعلم المدرّب. وكان زملاؤه التلاميذ يَدهَشون لصنيعهِ وللضفدعة التي ماتت بعد أن قطّعت الموسى أوصالها ولا يزال قلبها ينبض بالحياة. كان يصطاد الطيور ليس حباً في شوائها ولكن لكي يتفحّصها ويتأملها ويدْرسها ثم يطلق سراحها وإذا كَسر جناح طائر أورجله عند اصطياده جبر كسره بيدية الصغيرتين ثم أطلقه في الهواء. هكذا صار حب الطبيعة الذي يجري من عروقه مجرى الدم مهنة له في حياته بعد أن درس علم الحيوان في جامعة الخرطوم وتخصص فيه وحاز على درجات فوق الجامعية من كندا وبريطانيا ودرّسه في جامعة الخرطوم وفي غيرها. ما حطَّ ود الريح رحاله في مرحلة تعليمية ثم غادرها إلا ترك فيها بصماته وأثراً قوياً باقياً. فلما انتقل من »أبوزبد« الأولية إلى الأبيض الأميرية الوسطى طوّر ملكة الرسم والتلوين عنده وأبدع لوحات فنيّة في الطبيعة عُلقت »كالمعلقات« على جدارن المدرسة وقد شاهدناها نحن الذين التحقنا بالأبيض الأميرية بعده بأربع سنين. ولما أكملنا دراستنا بالأميرية وغادرناها كانت لوحات الغزلان مازالت تتدلى من الجُدُر. فلما التحق بمدرسة خور طقت الثانوية تجلت موهبته في النحت والتقى بأساتذه فنانين أفذاذ من أمثال العريفي والبلاع ومالك الزاكي فصنع تمثالاً عَجَباً لفتاة بدوية تحمل قربة ماء وكأنماّ سقط منها النصيف ولم ترد إسقاطه. وهو تمثال ذو جمال خارق مستوحىً من بيئة شمال كردفان. وُضع التمثال في مدخل المدرسة ولعله مازال في مكانه منذ عام 1961.. كان ود الريح لا يجارَى في فنيّات مسرح المدرسة: يرسم اللوحات الخلفية والديكور والستائر ويوزع الإضاءة ويهندس الصوت الى غير ذلك من فنيات المسرح المدرسي. في جامعة الخرطوم التحق ود الريح بكلية العلوم ودرس علم الحيوان وحاز على البكالوريوس ثم عمل مديراً لمتحف التأريخ الطبيعي وطوّره تطويراً واضحاً جذب اليه كثيراً من المواطنين. وفي إبان دراسته الجامعية صنع تمثالين للقرشي وبابكر عبد الحفيظ الطالبين اللذين استشهدا في ثورة أكتوبر عام 1964م. ووُضع التمثالان أمام بوابة مكتبة الجامعة. وما كان ود الريح متخصصاً في علم الحيوان وفناناً تشكيلياً وحسب ولكنه في الجامعة كان أديباً وناقداً فنيّاً واجتماعياً. اكتشف مواهب فنية مثل المرحوم خوجلي عثمان وغيره وكان ولايزال معجباً بصوت ابو»داوود« وحنجرته وله في ذلك تحليلات وآراء علمية. يحب أشعار صديقه الشاعر الفحل »ود المكي« محمد المكي ابراهيم ويدعوه لأبوزبد. كما أنه مؤلف لكتب الأطفال لاسيما تحبيب الطبيعة والبيئة إليهم. كان محرراً لأشهر صحيفة حائطية في الجامعة لمنتصف الستينات إاسمها »سلامات« تزخر بالنقد اللطيف الساخر لمجتمع الجامعة وتبين حلاوة الحياة فيها بروح عالٍ من الفكاهة الراقية ورسومات كاريكاتيرية رفيعة وقفشات لطيفة خاصة أثناء الحملات الانتخابية لاتحاد طلاب الجامعة. ولعل شخصية حساس محمد حساس التي اخترعها ود الريح هي تطوُّر على مستوى المجتمع الواسع لبعض القضايا التي كانت تعالجها »سلامات« على مستوى الحرم الجامعي. أما القضايا البيئية الكبرى: كالتصحر وإزالة الغابات والغطاء النباتي وتلوث الأرض والماء والهواء والاحتباس الحراري وانبعاث الكربون والتغوّل على المحميات الطبعية بالزراعة الآلية وغيرها وإبادة التنوع الأحيائي فيها ودفن النفايات السامة والضوضاء في المدن، كل هذه القضايا البيئية الهامة وغيرها لود الريح فيها أطروحات وآراء ومبادرات وسهم راجح بالتعاون مع منظمات المجتمع المدني المهتمة بهذه القضايا كالمجلس الأعلى للبيئة ومع الدولة أحياناً. قدم ود الريح في التلفزيون برامج عن الطبيعة والبيئة غاية في الفائدة والتثقيف والإمتاع. من ذلك مثلاً برنامجه الشهير في السبعينات »طبيعة الأشياء« وبرامج غيره مفيدة جداً. وإن مؤلفاته ومقالاته العلمية التي بثها في مختلف الصحف عن الحيوان والنبات والطيور والزواحف ذات قيمة عالية. في رأيي أن هذا العالِم a Living Legend وان رسالته في الحياة التي كتبها الله له هي أن يبين للناس بما أوتي من علم الطبيعة بعض آيات الله في الكون وسننه التي بها نرتقي ببيئتنا اذا استمسكنا بها او ننحط بها اذا حاربناها فيظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس. وأظنه رغم الصعاب الكثيرة التي يواجهها كل من يعمل في مجال ترقية البيئة قد استطاع بعلمه الغزير وتجربته المحلية والعالمية وشخصيته المحببة الفكهة أن يفتح كوة صغيرة في هذا المجال الوعر ينفذ منها رجال ونساء في المستقبل يحملون مشاعل ترقية البيئة في السودان بل وفي كوكبنا الأرضي لأن قضايا البيئة متداخلة بين مختلف البلاد والشعوب. لقد أحسنت شركة زين للاتصالات صنعاً بتكريمها لهذا العلامة الفذ وإننا أبناء وبنات السودان و»مدينة أبوزبد بصفة خاصة لنفخر »بخليفة« ذلك التلميذ النابغة والعالم الجليل من بعد و»رجل البيئة الأول« في بلادنا والذي انداح علمه خارج السودان الى السعودية وغيرها. هنيئاً له ولأسرته. في ندوة عُقدت في قاعة الشارقة في سبتمبر »2011« عن تدهور بيئة محمية الدندر القومية ووسائل حمايتها والنهوض بها قال عالِمنا ما معناه ان التوصيات التي خرجت بها الندوة أمر جيد ولكننا جربنا ما يحدث لمثل هذه التوصيات دهراً طويلاً مع الرسميين. فإن التوصيات تموت في أضابير المسؤولين. والحل هو ان نتولى نحن الشعوب زمام أمرنا ونقوم نحن المهمومين بشأن البيئة أنفسنا ونذهب الى الدندر ونزرعها بالأشجار بعد أن ضربها التصحر ولم يُبقِِ فيها من الحياة إلا قليلاً. ولقد صدق ود الريح. دعونا »ندلل على وعينا البيئي« ونحقق شعاره. حقاً ان الحضارات لا تبنيها الحكومات ولكن تبنيها الشعوب.