منذ عقود طويلة عرف السودانيون «الاغتراب» والهجرة بشكل عام، وتعدد أسباب الهجرة سواء كانت أسباب اقتصادية، أو سياسية، أو فنية..إلا إن شريحة المبدعين السودانيين بشكل عام والمغنين والشعراء بشكل خاص شهدت هجرة كبيرة والأمثلة والشواهد تطول «إسحاق الحلنقي، عمار السنوسي، الطيب عبد الله، عبد العزيز المبارك، البلابل، يوسف الموصلي، عبد العال السيد، التاج مكي، أسامة الشيخ، السر قدور والقائمة تطول، لكن الغالب في هجرة هؤلاء المبدعين ترجع أسبابها إلى اختلافات سياسية حيث شهدت أوائل التسعينيات في القرن الماضي كماً هائلاً من هجرات الفنانين عامة وبعضهم يفكر في العودة، لكن إلى أي مدى ربح هؤلاء المبدعين من الفنانين والشعراء من هذه الهجرة، وإلى أي مدى كانت هذه الهجرة بمثابة الخصم بالنسبة لهم فنياً وجماهيرياً. والغربة شأنها شأن أوجه الحياة الأخرى لايستطيع الإنسان أن يحقق فيها مكاسب على كل الجبهات.. فلا بد أن تكسب هنا وتخسر هناك.. وتتفاوت الدرجات من شخص إلى آخر هكذا بدأ الشاعر والأديب السر أبو العائلة حديثه عن تجربته الشخصية، فقال احمد الله كثير أنني ما زلت أحمل هم الوطن رغم غربتي الطويلة، ولا أحسب نفسي مغاليًا إن قلت إن ذاكرتي ما زالت تختزن كل التفاصيل الصغيرة عنه.. الحارات القديمة، المقاهي، الشوارع.. وجوه أناس ضاعوا في زحمة الحياة، وأخرى غيبها الموت.. رائحة العشب المنقوع بحبات المطر.. أشجار النخيل الباسقة تعانق النجوم.. المذاري والمحاريث.. حقول مترامية الأطراف.. وجداول بهيمية لم تزل في فورانها الجامح تستبق الفصول.. وجدت في كتابة الشعر بعض العزاء.. فأصدرت ديوان «القمر الشهيد» وهنالك دواوين أخرى تنتظر فرصتها في الطباعة والنشر.. وفرغت لتوي من إعداد كتاب عن أدب الإخوانيات، سيرة ذاتية عن حياة والدي بعنوان «حتى لا تجف الينابيع».. اتجهت إلى الشعر الغنائي فغنى لي التاج مكي وعبد المنعم حسيب وترباس وسيف الجامعة.. وسأواصل المسيرة إن كان في العمر بقية. الفنان يوسف الموصلي يحكي عن تجربته مع الغربة فقال أخذت مني عشرين عامًا وبسرعة، وحرمتني من قضاء وقتي مع الشعب السوداني الجميل.. لكن كان عزائي الكم الهائل من السودانيين الموجودين بالولايات المتحدةالأمريكية، وأضاف: أن الغربة أعطتني علمًا موسيقيًا قويًا صلبًا متمكنًا وخبرة وثقافة بالإضافة إلى أن التعامل مع زملائي لم ينقطع، المتتبع لذلك يلحظه جيدًا حتى وأنا بالخارج، ولم انقطع من جمهوري واتواصل معهم من خلال المواقع الاجتماعية. ومن جانبة أمّن الفنان التشكيلي الدكتور راشد دياب على أن الفنان عمومًا ليس له وطن محدَّد بل يتخذ العالم وطنًا له، وأن الفنانين التشكيليين الذين هاجروا لاقوا عدم تقدير على مستوى الدولة والمجتمع وبذلك لم يتمكنوا من تحقيق نجاحهم بالداخل، كما أوضح أن نشر الثقافة السودانية أيضًا والتعريف بها عوامل تقف وراء هجرتهم، وعن تجربته الخاصة أكد أنه خرج لنيل الدكتوراه من جامعة مدريد التي عمل بها وأنفق فيها من عمره تسع سنوات قرر بعدها العودة إلى أحضان الوطن ليجد الوضع الثقافي متدهورًا، بجانب ذلك فإن دياب يقول إن الفنان السوداني لا يجد في السودان الوقت الكافي حتى ينتج ويبدع لكون المجاملات الاجتماعية تأخذ جل وقته وبالتالي يجد في الهجرة ملاذًا للإبداع. ويرى الناقد الفني الأستاذ موسى حامد أن هجرة الفنانين خصماً أو إضافة يعتمد بشكل أساسي على الفنان المبدع نفسه، ويقول هناك بعض الفنانين لم يتأثروا فنياً ولم يفقدوا جماهيرتهم على الرغم من بقائهم لفترة طويلة خارج السودان.. مبدئياً الهجرة تؤثر على المبدع وإبداعه على الرغم من كونها عاملاً لزيادة الإنتاج ربما لحساسية المبدع وافتقاده وطنه وأهله وجماهيره.. لكن ليس هناك عذرًا لأي فنان مهاجر يبتعد عن جماهيره وفنه في ظل الوسائل الإعلامية المنتشرة.. ففي نفس الوقت الذي غاب فيه عن الناس صوت الفنان التاج مكي ونسيته جماهيره نتيجة إلى طول فترة غيابه عن الوطن وعدم تواصله، في ذات هذا الوقت لم يفتقد الناس سيف الجامعة على الرغم من هجرته لسنوات خارج السودان نسبة لاتصاله بجماهيره عن طريق أشرطة الكاست أو مواقع التواصل الاجتماعي مثلاً.