لسكرتارية جريدة »الخرطوم« مقدرة فائقة في استخراج أشياء غريبة جدًا. هم باستمرار »ينكتون« حاجات لا تخطر على بال. يظهر أن أرشيفهم يزخر بما خفي أعظم .. أو حتى »بخفي حنين«.. ويظهر أنك لو احتجت إلى بدل فاقد لشخصيتكم لوجدتها عندهم. ذات يوم عندما كنا في الاغتراب ومع مقالي »استراحة الخميس« جاءوا بصورة لي.. من أين؟ لا أدري.. كيف عثروا عليها؟ لا أدري.. وأنا »ذات نفسي« ما كنت مصدق أن ذلك الولد الخنفس الذي يلبس قميصاً بكاروهات مثل ميدان الشطرنج هو أنا. ولكن السكرتارية أو القسم الفني فاجأت جمهرة القراء وعلى رأسهم أنا بتلك الصورة التي تمثلني وأنا في طور »الشرنقة« أو أيام »التشرنق« الزاهية. ألم أقل لكم أن ثلاثة أرباع عمري في الماضي؟ وما نشرته جريدة »الخرطوم« من صورة لي تمثل ومضة من ذلك الماضي. أتذكر الآن أن تلك الصورة أخذت في أوائل السبعينيات بمناسبة زواج الأخ الريح على الآنسة آمال.. خريجة جامعة ميريلاند.. الإثيوبية الأصل.. وكان الأخ الريح في ذلك الوقت يعمل في مصنع النسيج، والتقى الآنسة آمال التي كان والدها يعمل في الخارجية الإثيوبية بأديس أبابا، وكانت هي تقيم بالسودان. وكانت السيدة عائشة عمر صاحبة كوافير برادايس هي التي أشرفت على ذلك الحفل الذي أقيم على ما أظن في النادي العربي. وفي ذلك الوقت كنت أعمل عضوًا في سكرتارية المتاحف الإفريقية »مجموعة ليفنقستون بزامبيا« وكان رئيس المجموعة هو المحامي الزامبي المرموق ادوارد شاموانا الذي كان يوجه لنا الدعوة مرتين في العام للاجتماع في لوساكا، وكان على حضرتنا التنسيق بين متاحف شرق ووسط إفريقيا، فكنت أتجول بين إثيوبيا وكينيا وتنزانيا ويوغندا.. وقد كنت أنشر تلك المقالات في جريدة«الصحافة» تحت عنوان »حكاوي من زامبيا وملاوي«.. إذ أن ملاوي أيضاً كانت ضمن المجموعة. وأسفاري المتكررة إلى أديس أبابا جعلتني على صلة صداقة حميمة ببعض الإخوة الإثيوبيين وعائلاتهم، ومن ضمنهم السيدة آمال التي أخذت لي تلك الصورة في حفل زفافها.. وقد توطدت العلاقة عندما دعيت لحضور احتفالات منظمة الوحدة الإفريقية بعيدها العاشر في 25 مايو عام 1973م، وقد كانت هناك فرقة الفنون الشعبية السودانية التي قدمت عروضاً مذهلة، واشتركت فرقة البلابل وبشير عباس في حفل غنائي عظيم أُقيم بسينما »هاقرفكر« بأديس أبابا، وكتبت عن ذلك الحفل استراحة في جريدة «الصحافة» بتاريخ 10/6/1973 بعنوان »مشينا .. مشينا« وأعدت نشرها في جريدة «شقيش». وذات مساء كنت في انتظار صديقي شابرو تدلا في بهو فندق واباشبيلي عندما لمحت احدى الفتيات وهي تطيل النظر إلى حضرتنا، ثم أخذت تتحدث معي باللغة الأمهرية التي لا أفهم منها شيئاً.. ولكن هذا لا يهم فهذه البنت لا بد أنها قد أعجبت بحضرتنا.. والحقيقة أنا »ذات نفسي« كنت معجباً بنفسي.. وكنت أقف أمام المرآة وأطيل النظر إلى شكلي وأهذب أشنابي وأنا في غاية من الإعجاب. قال لي أحد أصدقائي ذات يوم: أنت ستصاب بالنرجسية (Narcissism)، وكنت أعرف أن النرجسية مأخوذة من الأسطورة الإغريقية التي تقول إن نرسيس كان شاباً جميلاً نظر إلى صورته في الماء فافتتن بها، وظل يحدق في الماء إلى أن مات وتحول إلى زهرة نرجس تطل برأسها دائماً على الماء، ولا أدري لماذا أطلقنا عليها «فكي مستحي». فقلت له: كلام فارغ.. النرجسية هي أن يتوهم شخص ما بأنه في حالة حب مع نفسه بنفسه. فقال لي: وأنت ماذا تفعل الآن؟ قلت: هذا حب حقيقي. وبالرغم من أني كنت أدرك أن ذلك الحب «أن يحب الشخص نفسه» هو الحب الوحيد الذي لن ينافسك عليه الآخرون. إلى هذا الحد كنت معجباً بنفسي، فلا غرو إذن أن تعجب بي هذه البنت على الأقل في هذه المرحلة قبل أن ننتقل إلى مرحلة أخرى. وتعبيراً عن إعجابها ظلت تتكلم وتشير بيدها ولكني لا أفهم شيئاً، إلا أنني كنت في غاية السعادة.. إذ أن الإعجاب لا يحتاج إلى لغة أو فهم. وفي هذه اللحظة جاء صديقي شابرو تدلا.. فقال لي: يا أخي البنت من الصباح تتكلم معاك وتحاول تشرح ليك.. فقاطعته: أيوه أنا عارف.. بس ما في حاجة ممكن أعملها عشانها.. مسكينة قدرها كده.. هي القال ليها تعجب بي منو؟ فقال: قدر إيه وحكاية إيه؟ فصحت فيه: خليها يا شابرو.. دي واحدة مسطحة.. كونها تعجب بي.. دي مشكلتها مش مشكلتي.. ولكن صديقي شبرو لا يتزحزح عن موقفه قيد أنملة: يا أخ إنت المسطح... أنا بقول ليك البنت بتحاول تفهمك أنك رابط الكرافتة بالقلبة. وهل تظنون أن هذه الجملة الأخيرة التي تفوه بها صديقي شابرو يمكن أن تهز ثقتي في نفسي.. «كلا وألف كلا.. قابلني في المكلا».. وكل ما فعله صديقي أن جعلني أفقد الثقة في الكرافتات وفي بيار كاردان بالذات، ولذلك أعلنت مقاطعة بضائعه وتصميماته، وبعثت له خطاباً بذلك مع صورة من الخطاب لجيوفانشي وإيف سان لوران وكريستيان ديور.. حتى »يموصو« كرفتاتهم ويبلعوها «هه .. تلقاها ما بتتبلع». هذه الصورة التي أثارت كل تلك الشجون تعيش الآن في الماضي وليست لي بها علاقة.. ولذلك فأنا غير مسؤول عنها، وناس القسم الفني يودوها محل ما لقوها.