إني وقد وقف الكلامُ على فمي *** حدِّثتُ نفسي في مجالِ تألمي ولقد وقفتُ ببابِ نورٍ في العُلا *** والآن أمسحُ من جِراحاتي دمي والفضلُ كان مُقيِّداً في عِصمتي *** لما بدا نورُ الصباحِ المُلْهِمِ تلك الأبيات قُمتُ بنظمها في بحر الكامل »متفاعلٌ متفاعلٌ متفاعلٌ ** متفاعلٌ متفاعلٌ متفاعلٌ« وأنا مازلتُ أُبحر بتؤدةٍ في هذا العلم الواسع الضروب »علم العَروض والأوزان الشعرية« وحقيقةُ الأمر أن الشاعر المشهودُ له يولد وبين يديه فطرة الوزن والإيقاع وهي إحدى مصادر الطبيعة الكونية.. فالدنيا جميعها إيقاع مُتغيِّر ومحركات تفاعل الإنسان معها مرتبط ارتباطاً موضوعياً بالسمع والصوت... وبالتالي فإن النظر إلى حساسية أذن الشاعر تجاه جرس الكلمة وتناسق أحرفها مع ماسبقها من كلمات مصدره الطبيعة... ولكن هذا الإحساس الفطري قد تخونه دعامات الحنكة المطلقة فكما يقولون لكل جوادٍ كبوة فلا يدّعي إنسان أنهُ بلغ الكمال في شيء إلا وخانه عقلهُ وقلبهُ في الوفاء بذلك.. ومن هنا ينطلق السؤال »هل على الشاعر أن يكون نحوياً وصرفياً وعَروضياً حصيفاً ومحترفاً ؟؟«. وكنتُ في بداية التسعينيات بالمملكة المغربية الرباط ألتقي باستمرارالشاعر الفذ محمد مفتاح الفيتوري صاحب »في حضرة من أهوى عبثت بي الاشواق حدَّقتُ بلا وجهٍ ورقصتُ بلا ساق« ... وتطرّقتُ معه في جلسةٍ إلى هذا الأمر فذكر لي أنهُ ليس بالضرورة أن يبلغ الشاعر مبلغ الاحترافية في صنعة النحو والصرف والعَروض فيكفيه في هذا .... القدر الذي يؤطِّر الشكل الشامل للقصيدة على أنه لا غُبار أن تحتوي القصيدة بعض الهنات هنا وهناك... ولكن قبل إخراجها للمُتلقي يرى الفيتوري أن يُعرض النص على أولي الاختصاص من نحويين وعَروضيين حتى تكون القصيدة مُنزَّهة من النقائص عند العرض والنشر واستشهد بأبيات للشاعر الفرنسي فولتير يقول فيها »يا أيها الشعراء ... احذفوا وأضيفوا ... وتوخوا الصِنعة ... بغير ذلك لن يُوضع كل شيء في مكانه«. كل ما ذُكر آنفاً عارضهُ بعضُ الحداثيون من حيث المبدأ ودعوا إلى النأي عن القيود الشكلية الكثيفة للقصيدة العمودية ووضعوا قصيدة التفعيلة كبديل وعائي للنص وأسهبوا في إعلاء دور التداعي والإلهام العاطفي لدى المبدع للحد الذي يُخليه من الانشغال بكل الضوابط الشكلية للقصيدة ومن ضمنها فكرة الأوزان كبابٍ من العلوم الفرضية، غير أن القصيدة لا يمكن أن تنفك في جمالياتها عن فكرة الإيقاع ونغم الكلمة ولعل الحداثيين يدعون في تحقيق ذلك إلى أن يُكتفى بما هو موجود في فطرة الشاعر من أوزان تخرج ضمن ما يُلفظ لحظة التداعي والإلهام فكما تحتوي الذاكرة الإبداعية فطرةً على المفردات والصور الجمالية والجُمل الشعرية يجب أن تحتوي أيضاً على قدرٍ لا يُستهان به من الوزن الإيقاعي الفِطري للكلمات.