قبل سنوات؛ تحديدًا أيام حرب تموز، وقبل ذلك مجمل تغطيتها للشأن العربي، كانت الجزيرة عنوان الإعلام المقاوم المنحاز لقضايا الأمة وشعوبها في عُرف طائفة من اليساريين والقوميين «بعضهم طائفيون»، لكن الأمر ما لبث أن تغير إثر ثورة ليبيا وتدخل الناتو، ثم انقلب تمامًا إثر موقفها من ثورة سوريا. بعد وقوفها إلى جانب الشعب السوري أصبحت الجزيرة، ومن ورائها قطر رأس الحربة الصهيونية الأمريكية ضد المقاومة والممانعة، حتى أن أمير المقاومة كما وصفه أمين عام حزب الله لم يلبث أن تحول إلى عدو للمقاومة والممانعة، هو الذي كان صديقًا حميمًا لنصر الله ولصاحبه بشار الأسد في دمشق. ووصلت النكاية الرخيصة بحزب الله حد إزالة اسم قطر عن سائر البنايات والجسور والمنشآت التي أعادت إعمارها في جنوب لبنان والضاحية الجنوبية. حدث هذا بينما كانت نياشين الوفاء تُمنح من قبل من ذكرنا في بداية المقال لحسن نصر الله لأنه لم يتنكر لسوريا المقاومة كما تنكرت حماس، مع أنهم يعلمون تمام العلم أن مواقف نصر الله لا يمكن أن تتناقض مع مواقف إيران. وحين تلقي الأخيرة بكل ثقلها خلف بشار الأسد، فلا يمكن لنصر الله أن يأخذ موقفًا مختلفًا. وقد تسربت معلومات من لبنان مفادها أن حزب الله قد استأذن القيادة الإيرانية في اتخاذ موقف أكثر توازنًا من الثورة السورية يحافظ على بعض مصداقيته في الساحة اللبنانية والعربية والإسلامية، فجاء الرد حاسمًا بالرفض، فاستمر الموقف على ما هو عليه، حيث يخرج نصر الله بين حين وآخر مدافعًا عن نظام بشار، هو الذي خطب منذ بداية الثورة السورية أكثر من مجموع خطبه طوال سنوات سابقة!! ما يعنينا هنا هي المعايير المزدوجة التي يستخدمها أولئك مع الجزيرة. فهي مهنية وموضوعية ورائعة حين تأخذ المواقف التي يحبونها، لكنها تغدو غير ذلك تمامًا حين تتبنى موقفًا لا يعجبهم. والحال أن الجزيرة والقائمين عليها كانوا الأكثر انسجامًا مع أنفسهم، حيث أيدوا جميع الثورات؛ ما كان منها ضد أنظمة «رجعية» أو تنتمي لمحور «الاعتدال»، وما كان منها ضد أنظمة تنتمي لمحور المقاومة والممانعة. ويعلم الجميع أن علاقة القيادة القطرية لم تكن أكثر حميمية مع أي طرف من علاقتها بمعمر القذافي وبشار الأسد، ومع ذلك لم تجد بدًا من تكريس ذات موقف الجزيرة المنحاز إلى جانب الشعوب. سيقال هنا إن موقفها من البحرين ليس كذلك، الأمر الذي لا يبدو صحيحًا، لأن كل فعالية في البحرين تتم تغطيتها ويجري الاتصال برموز المعارضة البحرينية ليشرحوا موقفهم، مع العلم أن الثورة في البحرين لا تختلف عن الاحتجاجات الشعبية التي تجري في عدد من الدول العربية الأخرى التي لا يمكن وصفها بأنها ثورة شاملة مثل سوريا وليبيا وقبلها مصر وتونس واليمن، فضلاً عن كونها سابقة على الربيع العربي وتنتمي إلى احتجاجات ذات بعد طائفي، مع أن ذلك لا ينفي أن جزءًا معتبرًا من مطالبها صحيح وعادل، حتى لو كان من الصعب تحقيقها جميعًا دون تغيير المنظومة العربية والخليجية بشكل شامل. وما يتجاهله أولئك هو أن موقف الجزيرة من الاحتجاجات في البحرين هو الذي أدى إلى إغلاق مكتبها هناك؛ ما يعني أنها غير متواطئة مع النظام. والحال أن الجزيرة لم تحصل على شعبيتها ومصداقيتها عند الجماهير إلا من انحيازها للشعوب وقضايا الأمة، ولو وجدت فضائيات أخرى بنفس المستوى تفعل ذلك لانحاز الناس إليها. صحيح أن «العربية» تأخذ موقفًا مشابهًا من الثورة السورية، لكن ذلك لا يُنسي الناس وقفتها ضد ثورة مصر وتونس، وضد الإسلاميين بشكل عام، وعلى نحو مرَضي في كثير من الأحيان. نعم، كانت الجزيرة منحازة لمسارها الطبيعي، بينما تورط منتقدوها في التناقض السافر حين أيدوا الثورة المصرية والتونسية واليمنية، ثم أحجموا في الثورة السورية وراحوا لتبرير موقفهم يشككون في سائر الثورات وينسبونها لمؤامرة دولية يتولاها شخص صهيوني فرنسي اسمه برنار ليفي، بينما تتم رعايتها من قبل مطبخ أمريكي صهيوني!! إننا هنا لا ندافع عن الجزيرة، بقدر ما ندافع عن ثورة الشعب السوري البطل، والأهم عن حق الشعوب في الحرية بعيدًا عن استخدام اسم فلسطين والمقاومة والممانعة والتصدي للإمبريالية ستارًا للقمع والفساد.