وصل السيد نبيل العربي الامين العام لجامعة الدول العربية الى دمشق، حاملاً مبادرة عربية مكونة من 12 نقطة، تقترح على الرئيس السوري بشار الاسد اعلان مبادئ، يؤكد التزام حكومته بالانتقال بالبلاد الى نظام حكم تعددي، والتعجيل بالاصلاحات السياسية، والوقف الفوري لكل اعمال العنف ضد المدنيين، وفصل الجيش عن الحياة المدنية، واطلاق سراح جميع السجناء، وتعويض المتضررين. السلطات السورية ترددت كثيراً في استقبال السيد العربي، وابلغته رسمياً من قبل وزير خارجيتها السيد وليد المعلم بأنها ترحب به كأمين عام للجامعة، ولكن ليس كحامل لمبادرة وزراء الخارجية العرب، التي تناقش الاوضاع الداخلية السورية، لان هذا يعتبر تدخلاً في شؤون سيادية. لا نعرف لماذا غيرت هذه السلطات رأيها، وما الذي جعلها تتراجع عن موقفها المتعنت هذا، وتفرش السجاد الاحمر مجدداً للأمين العام للجامعة، ولكن ما نعرفه ان الكثيرين من اصدقائها (وهم قلة على اي حال) خطأوا هذا الموقف، وطالبوها بالمرونة، والعمل على كسر العزلة، وفتح الابواب والنوافذ المغلقة، لأي افكار او زوار، لايجاد مخرج او حتى منفذ صغير من الأزمة الراهنة. فبعد ستة اشهر من هدر الدماء، وقتل واصابة الآلاف، وفتح سجون جديدة لاستيعاب عشرات الآلاف الآخرين من المعتقلين، تحتاج القيادة السورية الى اجراء مراجعة شاملة ومعمقة لطريقة إدارتها للأزمة، بما يؤدي الى التسليم بفشل الحلول الأمنية، وضرورة البحث عن حلول ووسائل اخرى، لان الاستمرار في العناد سيؤدي حتماً الى كارثة للجميع في سورية، حكومة ومعارضة. صحيح ان الحلول الامنية حمت النظام حتى الآن من خطر الانهيار، على غرار ما حدث في مصر وتونس (لا نضع ليبيا في الخانة نفسها بسبب عنصر التدخل الخارجي)، ولكن هذا لا يعني ان هذا النظام تعدى مرحلة الخطر، وان باستطاعته الركون الى هذه الحلول الدموية الى الابد. من المؤكد، وبحكم متابعة ادبيات النظام في سورية، واقوال المتحدثين باسمه، ان فرص فشل مهمة السيد العربي في دمشق اكبر بكثير من فرص نجاحها. لانه يعتقد ان المبادرة التي يحملها الامين العام هي جزء من المؤامرة الخارجية التي يتعرض لها، وان بنودها وضعت من قبل جيفري فيلتمان مساعد وزيرة الخارجية الامريكية، بمباركة وتأييد معظم الدول العربية التي تسير في الفلك الامريكي. ان يتحدث المسؤولون عن مؤامرة خارجية فهذا من حقهم، بل ونزيد عليهم بالقول ان المؤامرات الامريكية الاسرائيلية لا تستهدف سورية فقط، وانما المنطقة العربية بأسرها، ولكن ما نختلف معهم عليه، وبقوة، هو طريقتهم في مواجهة هذه المؤامرة، اي باعتماد القتل وارتكاب المجازر في حق المطالبين بالاصلاحات والتغيير الديمقراطي، وهي مطالب مشروعة حسب قول الايرانيين، اقرب حلفائهم. عندما تتعرض الدول، او الانظمة الحاكمة فيها بالذات، الى مؤامرة خارجية، فإن اول وابرز خطوة تلجأ اليها لإحباطها، هي تعزيز الجبهة الداخلية، وتعبئة الشعب للالتفاف حول النظام، وتحشيده للدفاع عن بلده، وهذا للأسف لم يحدث في سورية، بل حدث عكسه تماماً، والتفاصيل معروفة، ونرى وقائعها كل يوم عبر ارقام الضحايا الذين يسقطون برصاص الأمن والشبيحة. لو كنت مكان الرئيس بشار الاسد، واحمد الله انني لن اكون في مكانه او غيره، لاستقبلت الامين العام لجامعة الدول العربية، ورحبت به بحرارة، واشدت كثيراً بمبادرته وكل ما ورد فيها من بنود، واعربت عن استعدادي المطلق لتنفيذها بنداً بنداً، متمنياً عليه في الوقت نفسه، ان يطالب وزراء الخارجية العرب، والخليجيين منهم بالذات، الذين تحمسوا لها ولبنودها، ان يبدأوا بتطبيق هذه البنود فوراً، خاصة ان بلادهم مستقرة، ولا تواجه ثورة شعبية، ولا مؤامرات خارجية، فشعوبهم اولى من غيرهم بالتنعم بالاصلاحات والمساواة والعدالة والتوزيع العادل للثروة. بمعنى آخر نتمنى ان نرى تعددية حزبية في الدول العربية، وبرلمانات منتخبة، واصلاحات سياسية جذرية، وانتخابات رئاسية نزيهة وشفافة، بحضور مراقبين دوليين، وقضاء مستقل عادل، وصحافة حرة، وعدالة اجتماعية، ومساواة في التنمية وفي الحقوق والواجبات. لا نجادل في ضخامة عيوب النظام السوري، خاصة على صعيد الحريات وحقوق الانسان، ولا نختلف مطلقاً حول التسليم بأن الدول الاخرى، والخليجية منها بالذات، بزعامة المملكة العربية السعودية، اكثر استقراراً وأقل دموية، ولكن هذا لا يعني ان شعوبها تنعم بالحكم الرشيد ولا تريد اصلاحات ديمقراطية جذرية. وربما يفيد التذكير بأن حدوث التغيير الديمقراطي في سورية، وهو قادم لا محالة في نهاية المطاف، بالنظام او بدونه، سيعجل بحدوث التغييرات نفسها في المملكة العربية السعودية ودول الخليج، لأن الملكيات ليست محصنة امام هذا التسونامي المشروع، فمن المؤكد ان الشعوب العربية باتت موحدة تحت عنوان واحد وهو انهاء عصر الديكتاتوريات والحكم الاوتوقراطي، والانطلاق بقوة نحو الاصلاح السياسي، ولن تفيد الرشاوى المالية في وقف هذا التسونامي الديمقراطي الكاسح. ان اكثر ما نخشى ونحذر منه ان تكون مهمة السيد العربي مماثلة، بل ربما متطابقة، او مكملة لمهمة مماثلة لسلفه السيد عمرو موسى التي مهدت، ومن ثم شرّعت لتدخل حلف الناتو العسكري في ليبيا، وهي المهمة التي ندم عليها السيد موسى ندماً شديداً، بعد ان شاهد النتائج على الارض قبل ان يطلب منه ان يقفل فمه الى الأبد. وأخيراً لا نستغرب مخاوف المعارضة السورية من مهمة العربي هذه، التي قد تفسر على انها محاولة من النظام الرسمي العربي لانقاذ النظام السوري، وهي على اي حال مخاوف مبررة مع استبعادنا لها في الوقت نفسه، لان هذا النظام العربي بات فاقداً للقرار المستقل، ويأتمرُ بأوامر واشنطن. فرؤوس النظام الرسمي العربي، والملكيون منهم خاصة، لا يريدون اصلاحاً في سورية أو اي مكان آخر، بل يريدون استمرار المواجهات وأعمال العنف لأطول فترة ممكنة، تماماً مثلما عارضوا التغيير في مصر، حتى يقولوا لشعوبهم انظروا ما حدث في سورية ومصر وتونس من اضطرابات، وعدم استقرار ومستقبل مجهول، نتيجة مطالبة شعوبها بالاصلاح والتغيير الديمقراطي، ولهذا فالأفضل لكم كشعوب ان تبتعدوا عن هذا التوجه، وتتمسكوا بنا وبأنظمتنا.