لم تمر العلاقات السودانية الأمريكية منذ استقلال السودان بمنعطفات شديدة التعرج والانحدار للدرجة التي تمر بها خلال حقبة حكومة الإنقاذ الحالية فقد كانت العلاقة بين البلدين تتحسن وتسوء وفقاً للظرف السياسي للمنطقة والسودان ولأسباب تحسب أحياناً في خانة المنطق.. لكنها في عهد حكومة الإنقاذ وصلت حداً للسوء بقصف الأراضي السودانية «مصنع الشفاء».. ولم يطرأ عليها أي تحسن إلا في إطار إرسال مبعوثين ووفود همها الأول البحث عن إدانات جديدة.. وقد بلغت حدها الأقصى بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر وتفجير مركزي التجارة العالميين بنيويورك. فمنذ العام الأول لمجيء الإنقاذ أوقفت الولاياتالمتحدة جميع القروض والمنح لحكومة السودان معللة ذلك باستنادها لقرار الكونغرس رقم «513» القاضي بحجب العون عن أي حكومة تطيح نظام تعددي بالوسائل العسكرية..رغماً عن الاعتراف الموثق من مساعد وزير الخارجية حينها هيرمان كوهين خلال اجتماعه بالرئيس البشير بأنه يمكن تجاوز القانون أو قرار الكونغرس رقم «513» إذا احرزت الحكومة تقدماً في مجال السلام وتسهيل الإغاثة وفي العام «1997» زار البلاد مساعد وزير الخارجية الأمريكية لمكتب حقوق الإنسان والديمقراطية والعمل جيراسمث والتقى المسؤولين، إلا أنه قدم تقريراً سيئاً اعتبر فيه السودان الدولة الإفريقية الوحيدة التي تهدد مصالح الولاياتالمتحدةجنوب الصحراء.. وكانت الحرب بين الشمال والجنوب حينئذ في أوجها.. ومع تغير دفة الحرب لصالح الشمال واسترداد القوات المسلحة للعديد من المناطق التي تم احتلالها من قبل الجيش الشعبي.. اقتنع الطرفان بالجلوس لطاولة المفاوضات برعاية إفريقية ودولية وتم التوصل لاتفاقية نيفاشا في يناير من العام «2005» والتي لعبت فيها الولاياتالمتحدة دور الوسيط الأساس وانتهت بموجبها أطول حرب أهلية في القارة الإفريقية.. بل وأعطت الجنوبيين حق تقرير مصيرهم الذي انتهى باستفتاء أدى إلى انفصال الجنوب بطوع ورغبة مواطنية.ورغماً عن ذلك ظلت حكومة الولاياتالمتحدة تماطل وتخترع الأسباب لعدم الوفاء بالتزامها مع الحكومة القاضي برفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب والعقوبات الاقتصادية، بل وأصدر الرئيس أوباما بداية العام الماضي قراراً يقضي برفع القيود على بيع الأسلحة لجنوب السودان وسمح لحكومته بتقديم مواد وأسلحة إلى دولة الجنوب التي تشهد توتراً مستمراً منذ انفصالها مع الشمال على الحدود وتتهمها الخرطوم بايواء متمردين.. حينها صرح وزير الخارجية علي كرتي بأن أمريكا لم تعد محل ثقة.. وأوضح أن أمريكا خرقت قوانينها مرات عديدة وقدمت الدعم لحكومة الجنوب قبل انفصالها وأعلن في حالة من اليأس حيال السياسة الأمريكية ضد السودان بأن الحكومة لا تنتظر دعماً من الولاياتالمتحدة.. كما أن الولاياتالمتحدة قدمت مساعدات لتدريب الجيش الشعبي ومساعدة جوبا في تأهيل المتمردين على الحكومة السابقين وتحويلهم لقوات نظامية ورفعت جزء من القيود الاقتصادية المفروضة على الجنوب وسمحت بالاستثمار في قطاع النفط.. كما أن الشركات الأمريكية أصبح مسموحاً لها تصدير المعدات لاستخدامات النفط، إلا أنها أبقت على الحظر على قيام الشركات الأمريكية بتكرير النفط الجنوبي في مصاف سودانية وباعتراف مبعوثها الخاص لشمال وجنوب السودان «ليمان» فإن أمريكا كانت تحاول رفع السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب والتطبيع معه ورفع العقوبات الاقتصادية لولا أن ظهرت للسطح قضيتي النيل الأزرق وجنوب كردفان.. وما يدعو للدهشة أنه كلما استحكمت حلقات العلاقة بين البلدين وحسبت الحكومة أنها فرجت استحكمت أشد من الأول مما لا يدع مجالاً للشك بأن العناصر المتشددة داخل الكونغرس وجماعات الضغط في الولاياتالمتحدة لا تريد انفراجاً لهذه العلاقة.. وأن سياسية الجذرة والعصا التي تلوح بها دائماً ما ترعى الجذرة في فم الجنوب والعصا للشمال. فالمتتبع لعلاقات البلدين يكاد يقطع الشك باليقين بأن أي مشكلة داخل السودان بتدبير أمريكي إن لم تكن هي اللاعب الأساسي فيها وأنها مبيتة النية للتمادي في معاقبة السودان دون النظر لأي اعتبارات إنسانية كما تدعي.. وهذا ليس من باب «نظرية المؤامرة» بل من واقع التتبع للإستراتيجية التي تتبعها ضد السودان. وفي الجانب الآخر تلهث الحكومة السودانية وراء أي بارقة أمل للسموء بهذه العلاقة.. وما أدل على ذلك من احتفائها بدعوة البرلمان السوداني الأسبوع الماضي للمشاركة في مؤتمر المجالس التشريعية الأمريكية.. فهي كعادتها أمريكا حينما تجد نفسها محرجة أمام المجتمع الدولي من تنفيذ الحكومة السودانية لمطالبها تلوح بنصف جذرة لكنها لا تسمح للسودان بالتهامها البتة. لذلك على الوفد البرلماني برئاسة محمد الحسن الأمين رئيس العلاقات الخارجية بالبرلمان استغلال الزيارة جيداً والحرص على لقاء المسؤولين المتشددين من اليمين المسيحي من أعضاء الكونغرس ولكن «بتربص» و«سوء ظن» هذه المرة.