هذه راية يتداولها جماعة من أهل الإسلام من عصر إلى عصر.. وهو معنى يتجدَّد في أوساط أهل الجهاد دهراً بعد دهر أو قرناً بعد قرن وربما جيلاً بعد جيل.. وهو ظِلُّ يستظلُّ به بعضُ طلاب الآخرة.. لا يلتفتون وراءهم إلى الدنيا.. ولا يشغلون بالهم حتى بوداعها.. صفة هؤلاء جاءت في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم بما معناه: خير الناس رجل آخذ بعنان فرسه في سبيل الله يطير على متنه كلما سمع هيعة طار إليها يطلب القتل في فطانة.. من هؤلاء كان المنذر بن عمر المُعنِق ليموت، والمعنق أي المسرع، وكان أمير القوم يوم بئر معونة غدرت بهم بنو عامر وقتلوا منهم حوالى أربعين منهم المنذر بن عمرو الأنصاري، أميرهم، والحارث بن الصمة وعامر بن فهيرة. وقال فيهم حسان بن ثابت: على قتلى معونة فاستهلي.. بدمع العين سحًا غير نزر أي غير قليل.. ثم يخص المنذر بن عمرو بقوله: فيا لهفي لمنذر إذ تولى.. وأعنق في منيته بصبر من هنا جاءت تسميته بالمعنق ليموت.. أي المسرع طلبًا للموت.. وكان معه في السرية منذر آخر هو ابن محمد بن عقبة بن أحيحة ابن الجلاح وكان هذا مع عمرو بن أمية الضمري في سرح القوم أي في خيلهم ولما علموا بمقتل القوم قال عمرو بن أمية الضمري: فلنلحق برسول الله صلى الله عليه وسلم ونخبره الخبر، قال المنذر بن محمد: لكنني ما كنت لأرغب بنفسي عن موطن قُتل فيه المنذر بن عمرو.. وما كنت لتخبرني عنه الرجال. فقاتل القوم حتى قُتل. فهذا معنق آخر ليموت. عبدالعظيم حمزة.. ظل معنقًا في طلب الموت منذ أن عرفته منذ حوالى العشرين عامًا.. تقل قليلاً.. عبد العظيم ليس صحابياً.. وليس له فرس.. ولكنه ظل آخذاً بعنان فرس العصر كلاش.. أو دبابة.. أو مدرعة.. أو ما يتوفر وما يتيسر للمجاهد يبحث عن القتل في فطانة.. في أحراش الجنوب.. في رمبيك أو توريت.. أو في الميل أربعين.. ولم يتوقف قصده مظان الموت حتى بعد نيفاشا التي أغمدت سيوفًا سلّها الله سبحانه لنصرة دينه وإقامة دولته.. ظلَ عبد العظيم.. حاضراً.. ويقظاً.. وجاهزاً حتى فاجأني يومًا.. بمكالمة من على مشارف هجليج.. قبل ساعات من استعادتها.. وقلت يومها متى يستريح هذا المقاتل متى يضع لأمته.. ومتى يعيد سيفه إلى غمده!! وجاءتني الإجابة.. وكأنما أُلهمتها إلهامًا.. إن أمثال عبد العظيم لا يُقتلون في أول من قُتل.. ولا يستشهدون في أول من استُشهد.. إنهم يُدّخرون فيُقتلون في نهاية الحرب!! إن أمثال عبد العظيم حمزة.. هم وقود المعركة.. فكيف تتَّقد جمرتها وكيف يستعر لظاها إذا نفد وقودها؟! لم يكن لعبد العظيم إلا أحد حالين: إما أنه في المعركة أو متهيئاً للمعركة.. لقد جاء في الأثر عن فقراء المهاجرين أنهم تُسدُّ بهم الثغور وتُتَّقى بهم المكاره. ويموتُ أحدُهم وحاجتُه في صدره لا يستطيع لها قضاءً!! طوبى لهؤلاء ولمن سعى سعيهم هل كان لعبد العظيم في نفسه حاجة لم يستطع قضاءها؟! لم يحدث أن تكلم معي يوماً ما في أمر من أمور الدنيا.. لم يحدث أن جاءني يوماً شاكياً.. أو متبرماً.. أو طالباً لشيء.. أو طاعنا في أحد.. وكثيراً ما جاءني مبشرًا.. وفرحًا.. وأحياناً ناصحاً.. إن عبد العظيم.. فيما يبدو.. ليس موكّلاً بشيء من هذه الأمور.. ليس موكلاً إلا بنفسه.. يُصلح من أمرها.. ويسعى إلى الترقي بها.. كلَّما حاولت أن أستعيد صورته أمامي.. لم أجد إلا صورة واحدة: الابتسام.. والفرح.. وتهلل الأسارير.. إذا تحدث عبد العظيم تحدث بجوارحه كلها.. بفمه وعينيه ووجهه كله ويديه وجسمه كله.. كأنه يريد أن ينقل إليك صورة من صور الفرح والسعادة لا تكفيها الكلمات ولا الإشارات فيُفرغ جهده في التعبير بكلِّ ما توفَّر عنده من مقوِّمات.. كنت أحسب أنني وحدي أدرك أن شهادة عبد العظيم قد تأخرت كثيراً.. فقد سبقه أقران له كثيرون.. صدقوا ما عاهدوا الله عليه.. منهم أنس الدولب وأخوه أمين والمعز عبادي.. وقتادة.. ومصطفى المزمل وأبو دجانة.. هؤلاء جميعاً أعنقوا وتقدموا.. واختيروا.. واشتروا كما تُشتار أطايب الثمار من أغصانها.. أعنق هؤلاء.. وتقدموا بقدر.. وأعنق عبدالعظيم .. وتأخر بقدر.. وجاءته الشهادة وكأنها معه على ميعاد.. وأحسب أن شهادة عبدالعظيم.. جاءت شهادة له وشهادة لمن أُصيب معه في الطائرة.. على تفاوتهم في الأداء والعطاء.. والمقامات الدنيوية.. ولعلها لهذا تأخرت.. والشهداء دائماً صفوة.. كل الشهداء صفوة.. «وَيَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَدَاءَ» كان حارثة يوم بدر في النظارة.. لم يكن مقاتلاً.. وجاءت البشارة إلى أمه.. بأنها جنان في جنان أصابها حارثة يوم أصابه سهم عزب يوم بدر.. يا أهل الإنقاذ.. إن هؤلاء جميعاً ماتوا لتكون كلمة الله هي العليا.. فلم لا تكون كلمة الله هي العليا؟ لم؟ لم يا أهل الإنقاذ؟.. ووالله.. ما دام أمثال عبد العظيم وصحبه يموتون في سبيل الله وتُكتب لهم الشهادة فلتكن كلمة الله هي العليا في السودان بعز عزيز أو بذل ذليل.. والإنقاذ بالخيار.. وتعزيتي قبل تهنئتي للأخ عوض عكاشة وصحبه الذين استُثنوا من قائمة ركاب الطائرة التي استشهدت بمن معها من طيور الجنة.. عزائي لهم أن من طلب الشهادة صادقًا أُعطيها ولو مات على فراشه.. هكذا جاء في الأثر.. وتهنئتي للشباب قبل تعزيتي.. إخوة عبد العظيم.. وبقيته.. بابكر.. ووليد.. وحافظ.. وأبو كساوي.. وآخرين.. والذين تحلقوا وظلوا يتحلقون حول راية الشريعة والدولة والجهاد.. إن راية الشريعة لن تسقط أبداً.. هكذا قضى الله سبحانه و تعالى «كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي..» صدق الله العظيم. وإن راية الجهاد لن تسقط أبداً.. قال صلى الله عليه وسلم.. «والجهاد ماضٍ منذ بعثني الله إلى أن يرث آخر أمتي المسيح الدجال.. لا يبطله عدل عادل ولا جور جائر..» صدق رسول الله صلى الله عليه وسلم. ولكن راية الدولة توشك أن تسقط فتحلقوا حولها أيها الشباب.. فإنها ميراثكم.. لا تدعوها ولا تغرنّكم عنها أباطيل الصفوة من طلاب الدنيا.. من أهل الإنقاذ.. ومن غير أهل الإنقاذ.. وختاماً.. بشراكم يا أهل عبد العظيم.. وأسرته.. ووالديه.. بشراكم بالشفاعة فإن الشهيد يشفع في سبعين من أهل بيته كلهم وجبت له النار.. فطيبوا بشهادته نفساً.. وأكثروا من حمد الله.