* منذ ستة عقود وبلادنا تعيش بلا دستور دائم يحدد مطلوبات الدولة الحديثة ويحدد هويتنا الوطنية والثقافية... ويحدد رغباتنا الدافقة للحريات.. حرية التعبير وحرية الانتماء.. حرية التنظيم، وهي من الناحية السياسية ليست أمرًا صعبًا للدرجة التي نظل نختلف ونتجادل نتحاور ونتحارب ونتقاتل ..فيقتل بعضنا بعضًا... إن اتفاقنا على الدستور الدائم الذي من شأنه أن يحقق الوفاق ويحقق وحدة الرؤية ويفرز الألوان مابين الدولة بحدودها المعروفة والحكومة بتوجهاتها المتعددة.. منذ ستة عقود أي منذ أن نلنا استقلالنا من المستعمر الذي أعمل جميع أساليب الفساد والإفساد وزرع بيننا الخلافات وكل ما من شأنه أن يفرق بيننا ونحن نقف عند المربع الأول أي عند العام 1956 يوم أن رفعنا العلم وهتفنا بالسودان الحر والمستقل وقفنا عند الاتفاق الأوحد في البرلمان عندما جمعنا أصواتنا ونزعنا أنفسنا من قبضة الشعارات التي كانت تعبِّر عن رغباتنا ورددنا معًا عاش السودان حرًا مستقلاً ... يوم ظننا أن شعار السودان تحت التاج البريطاني، أو الاتحاد مع التاج المصري وصممنا العلم ورددنا السلام الجمهوري «نحن جند الله.. جند الوطن» ومنذ ذلك التاريخ ظلت تلاحقنا لعنات الشعارات والانشقاقات والزعامات وكل يرفع شعاره الذي لا يقتل ذبابة.. واستفحلت الخلافات واللعنات وتباعدت المسافات إلى أن سلمنا الحكم للعسكر في أول سابقة لإدراج القوات المسلحة في العملية السياسية.. ولإدارة عجلة التاريخ السياسي، حكم مدني غير مستقر وغير متفق عليه.. ولا دستور يعينه وحكم عسكري موحد ومستقر وتتحقق خلاله كل المشروعات التنموية القومية. * أمامي تجربتان لمحاولتين لوضع دستور دائم متفق عليه وشاركت في وضعه جميع القوى السياسية بإجماع كامل واتفاق شامل.. هما تجربة دستور 1998 الذي شاركت كل القوى السياسية في وضعه وتعميمه إلى أن حدث تدخل من قبل الدكتور حسن الترابي وأدخل كلمة واحدة هي «التوالي» وعندها رفعت الفعاليات المشاركة في وضعه يدها تبرؤًا من تحمل تبعات كلمة التوالي. * وتجربة دستور «2005» وفيها اتفقت لجنة الدستور المكوَّنة من الفعاليات السياسية وممثلي الحركة الشعبية المواد المناسبة من كل من دستور 98.. واتفاقية السلام الشامل وتمت مناقشته في المجلس الوطني من قبل ممثلي جميع القوى السياسية من حركة شعبية ومؤتمر وطني وتجمع ديموقراطي وأُجيز بإجماع كل هذه القوى كدستور مؤقت للفترة الانتقالية للسنوات الخمس الماضية أو التالية للعام 2005 وجرى تعديل كل القوانين المنظمة للعلاقات والعمل السياسي والتنفيذي حتى تم عبور تلك المرحلة بخيرها وشرها في ظل دستور متفق عليه.. وفي ضوئه جرت الانتخابات العامة على المستويات المختلفة للحكم وعلى ضوئه نشأت الدولة الجديدة المسماة بدولة جنوب السودان وفي ضوئه أُعيد تشكيل البرلمان وانتخاب الولاة وانتخاب المجالس التشريعية الولائية.. وانتخاب السيد رئيس الجمهورية. * لم يكن هناك طعن في الدستور الذي نظم الحراك في الشمال والجنوب ولم يكن هنالك رفض لكل ما تبع ذلك من إجراءات ولكن بعد ظهور نتيجة الانتخابات بدأت بعض الأصوات تعلو وتتحدث بما كان الأجدر فعله قبل الانتخابات وظهور النتائج، وبمجرد انتهاء الانتخابات أعلن رئيس الجمهورية أنه يرغب في تشكيل حكومة ذات قاعدة عريضة حرصًا منه على تحقيق إجماع وطني يقود المرحلة... ويكتب الدستور وتحدد الكثير من معالم دولتنا الحديثة التي عانت من عدم الاستقرار والتدخلات الخارجية والاستهداف ومساعي تفتيت السودان.. وإذا استمر موقف بعض القوى السياسية هكذا مناوئًا لاستقرار البلاد مناصرًا لأعداء السودان وهويته ودينه فإن تفتيت وحدة السودان سيكون حتمًا لازمًا... ولذا فإن النداء الذي وجهه السيد رئيس الجمهورية لكل القوى السياسية للالتقاء حول اللجنة القومية للدستور ومدها وتغذية عملها بالأفكار والإسهام كلٌّ بقدر قدرته وحجمه ينبغي أن يكون النداء الأخير قبل أن تقلع طائرة الدستور.. ففي تونس وليبيا ومصر وفي أعقاب ثورات الربيع العربي كادت اللجان الدستورية أن تفرغ من مهامها فما بالنا نحن لا نريد أن نلتقي ولا نسهم بل نعترض على كل ما يمكن أن يجمعنا.