جاء يقف أمامنا أحد من حواهم شريط الذكريات ونحس أن الزمن الجميل يرسل عبيره ونتشبث بأهدابه، وبذلك الشخص حتى لا نحس بالغربة وسط هذه الجموع في الساحة الخضراء يوم عرس هجليج، يوم أن وقفت الأمة على ساعديها تمسك السماء عزةً، ونتجاذب الحديث معه ونسأل عن فلان وفلان، ونُخبر أن أكثر من نسأل عنهم موجود بمناطق العمليات.. ويأتي آخر لينضم إلينا وثالث وصوت طفل صغير يردد .. سير سير يا بشير سلفكي... الحشرة تطير، يضج الجميع بالضحك ويتواصل حوارنا لنسأل عن الأخ سامي، فيجيب أحدهم أنه بالمعسكر، وأن كتيبة البرق الخاطف متوجهة لمناطق العمليات.. ونعود تلك الليلة نتوسد ألم النفس هل هذا السودان الذي نعرف؟ من تغير فينا السلطة أم نحن.. أين القوم أين الشرفاء أين أحباب الحبيب النبي محمد صلى الله عليه وسلم.. وتخرج زفرة حرى.. الحمد لله لقد عاد العهد ودماء الشهداء لم تبع لأن ثمنها غالٍ، لأن من يدفع الثمن هو المولى عزَّ وجلَّ.. وكل من يحاول أن يزائد عليهم، فوالله وبالله وتالله لن تحملنا أرض واحدة، فإما أن يدخل هو تحتها أو نلحق نحن بشهدائنا !! ويطل الصباح وصباح آخر.. ويتصل بنا الأخ إبراهيم دقش لنرتب للذهاب إلى المعسكر، وعند أعتاب منسقية الدفاع الشعبي المركز العام نتجمع ونشاهد موقفاً نادراً يذكرنا بموقف «سمرة» و«رافع» أيام غزوة بدر.. فتى يبكي لأنه يريد أن يذهب مجاهداً والمنسقون يرفضون بحجة صغر سنه، والطفل بل الرجل الطفل يبكي وهو يخبرهم بأنه «راجل»، وأنه وأنه، وتدخل الجميع لإقناع الفتى بأن يعود لأنه صغير سن وأن الله سيقبل منه وأن عليه أن يتدرب .. داخل المعسكر خليط من المجاهدين.. شيوخ وطلاب أساتذة جامعات وعمال وموظفون فيهم من عاد من العمليات قبل شهور ومن يذهب لأول مرة.. وبدأ الإعداد والتدريب، وكان حين يشتد وطيس التدريب نحتمي بكبر السن، وكان المعلمون «أحمد عيسى» و «أبو سيفين» و«جمب جمبو» يراعون ذلك، أما «تاتشر» وهذا له حكاية، وجنابو مصطفى، لا تنفع معهم لأنهم أكبر سناً منا و «تاتشر» سبب التسمية أنه ما شاء الله لا يفتر أبداً رغم كبر سنه، وكان يجمعنا عقب صلاة الصبح قبل أن نتناول الشاي ويذهب بنا في جولة تمتد لعدة كيلومترات أقل «جكاً» أربعة أو خمسة كيلومتر ويستمر الإعداد .. ويعجبك ذلك الصبر الجميل من الشيوخ ومواصلتهم لجميع أنواع التدريب رجلاً برجل مع الشباب.. ومنسقية الدعوة ترفدنا بالندوات الجميلة والأناشيد الحماسية، ويتسلل الشيطان خارج نفوسنا وتبتعد الدنيا خجلاً.. ويحين موعد الرحيل، ويشاء الله أن أتخلف عن مجموعتي لكن الله كان يهيئ أمراً آخر.. أتذكرون ذلك الشاب الذي سألت عنه «سامي» لقد عاد مصاباً إلى الخرطوم، وبعد أن شفاه الله كان في طريقه للحاق مرة أخرى بكتيبته «البرق الخاطف»، وكان أن تصادفنا داخل المعسكر، وطلبت من أمير القوة «أسوسا» أن أرافقهم، فطلب مني أن أخبر إمارة المعسكر، وقد كان، فواقف عبد الحميد أسوسا على مرافقتي لهم، وهذا جميل أحمله له .. وشيء آخر جعلني أحمد الله على ذلك، هو أن هذه المجموعة التي ذهبت معها تجعلك تحس بأن رفقة هؤلاء القوم حياة كاملة في الأخلاق والمحبة والتعاون.. «حافظ» لا يترك أحداً يشاركه في إعداد الشاي.. ومحمد دفع الله ومصعب لن تستطيع معهم إعداد أو جلب طعام.. ودكتور الحولى يعطرنا بالقرآن.. وله قصة.. الدكتور محمد حولي زاكي الدين زارتنا والدته عند توقفنا بمدينة أم روابة.. امرأة كريمة الأصل شجاعة.. تتجسد فيها عزة وفخامة السودان.. قالت لابنها تخاطبه: كثيرون طلبوا مني أن أثنيك وأطلب منك الرجوع لكن «يا ولدي» امشي عافية عنك وراضية عليك.. وأولادي المعاك ديل ما عندهم أمهات زي.. امشي معاهم الله ينصركم.. تكاد الدموع تتساقط من قلبك وتتفجر كل حواسك.. وأنت تستمع لمثل هذه الوالدة.. فانعم بها من أم وشكراً لها أن أعطتنا مثل ذلك الفارس، وذكرني هذا الموقف بموقف حكاه لي الأخ إبراهيم «دقش» حين تحلقت أخواته حوله وطلبن منه ألا يذهب للعمليات.. لأن أخيه الآن موجود بهجليج، فما كان من والدته إلا أن قالت لهن: «ما يمشي ليه أحسن يمشو ليهم واللا يجوكم هنا».. «ديل» أمهاتنا حفيدات الخنساء فمن لنا بأمهات أمثالهاً. وتمر السيارات مسرعة تقطع الوديان والسهول والجبال، والأخ سامي يصيح كل فترة: يا الله يا الله لتلك المناظر الجملية التي نشاهدها سبحان الله، جنوب كردفان طبيعة خلابة ومناظر تعصر الروح.. سألت الأخ سامي: ألم تقطع هذا الطريق من قبل وأنت في طريقك إلى تلودي؟ فأخبرني بأنه تم إحضارهم بالطائرة، وأخذ يحكي لي كيف أنهم هبطوا من الطائرة في مطار تلودي، والمطار يتم قصفه بالهاونات، وكان في انتظارهم الأخ علي ديدان أمير البرق الخاطف في تلودي، ومن ثم تم اصطحابهم إلى المعسكر تحت القصف لينضموا إلى كتيبة البرق الخاطف من أبناء تلودي، تلك الكتيبة التي قام بإنشائها المجاهد علي ديدان، وهم محاربون شجعان وشرسون جداً، وبعد أن اجتمع الجميع وتم عمل خطة سريعة تحركت المجموعة واستطاعت فك الحصار عن بعض المناطق المحيطة بالمعسكر، ثم تم التوجه إلى الجبال المحيطة بالمدينة التي كان المتمردون يقصفون منها السوق ومنازل المواطنين حتى يصيبهم الخوف ليتركوا المدينة، واستطاع المجاهدون تحرير الجبال بخطط تكتيكية بسيطة تعتمد في مجملها على التقدم وعدم الارتكاز، مما سبب حالة من الخوف والهلع وسط المتمردين المتمركزين وسط الجبال، وكان المقصود إرهاق العدو وعدم إتاحة الفرصة له ليرتاح أو يفكر، مما أدى في النهاية لتحطيم الروح المعنوية لديه، وكان لقيادة المقدم الشجاع محمد عبد الله وضباطه، دافع قوي للمجاهدين، وتم فك الحصار حول تلودي في فترة وجيزة جداً.. «يتبع».