من الذي أدخل يده في فم الأسد؟ نحن بالطبع، لم يكن هناك ما يدعو حكومة السودان للقبول بكل مقترحات السيد ثابو مبيكي ولجنته، وحتى ما تقدم به بشأن المناطق الخلافية والمناطق المتنازع عليها والمطالب بها، والخريطة التي توضح حدود البلدين المصطلح على تسميتها بخريطة مبيكي!! وكان يمكن أن نوفر وقتنا وجهد ووقت الوساطة وأزمنة المفاوضات، لو أصرت حكومة السودان والتزمت فقط بالحدود الدولية المعترف بها بين السودان وجنوب السودان التي عليها أبرمت نيفاشا ووقعت.. وتتعامل بها الأممالمتحدة وتعتمدها، وعليها جرت الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في 2010م، وجرى بها الاستفتاء على تقرير مصير الجنوب، وتم بها الاعتراف بالجنوب دولةً مستقلةً. لماذا أدخلنا أنفسنا في هذا المأزق الغريب؟ من البداية وببساطة شديدة، كان من الممكن إغلاق هذا الباب بدون ضجة ولا جلبة ولا خلاف، ونقول للسيد أمبيكي «خذ خريطتك معك نحن نتعامل فقط مع حدود 1/1/1956م، وهي الحدود المعترف بها دولياً بين البلدين، ونخضع المناطق المختلف حولها لآلية ترسيم الحدود ومعاييرها في ما اتفق عليه، ونواصل الحوار حول المختلف حوله أو نلجأ في النهاية لآلية تحكيم دولية نزيهة ومستقلة للتوصل لحل نهائي بين البلدين». لكن حكومتنا لم تفعل ذلك، وفرَّطت في هذا الأمر كما تفرط دائماً في أمور كثيرة، واتخذت موقفاً مائعاً متخاذلاً من خريطة أمبيكي التي بُنيت عليها خريطة طريق مجلس السلم والأمن الإفريقي، والتي بدورها جعلت مندوب الولاياتالمتحدةالأمريكية سوزان رايس تعكف مع مجموعتها السرية التي تعمل لدعم دولة جنوب السودان، على إعداد مسودة القرار الأممي «2046»، وهو الموجِّه الآن للمفاوضات بعد قبولنا بما جاء فيه!! والأغرب من هذا أننا ورطنا أنفسنا بأنفسنا، ولات حين مندم، فخريطة طريق مجلس الأمن والسلم الإفريقي عندما قدمت، لم تعلم بها السفارة السودانية في أديس أبابا عندما أُعدت، ووافق عليها وزير الخارجية علي كرتي دون أن يعرف خوافيها ودون أن تُجرى حولها مشاورات واسعة وعميقة، وموافقتنا عليها بتحفظات قليلة لم تتح لبعض القوى الدولية الصديقة اللاعبة في ساحة القرار الدولي فرصة للمناورة حتى برفضها أو تعديلها، فتبنتها على أساس موافقة حكومة السودان عليها، لأن الدول التي زارها وزير الخارجية قبل صدور القرار «2046» عن مجلس الأمن الدولي، وجدت الموقف الرسمي لحكومة السودان مرناً متساهلاً لا يرفض كليةً، ولا يوافق على الكل، ولديه تحفظات يسهل تجاوزها.. ولذلك فقدنا حتى فرصة الاعتراض بشدة على خريطة الطريق الإفريقية، ولم نستطع مواجهة تبعات القرار «2046». ولا يبدو الموقف الرافض لخريطة ثابو مبيكي قوياً بما يردع تقديمها واعتمادها، فالطبيعي أن تعلن الحكومة عن موقف صارم وحاسم، ويغادر وفدها مقر التفاوض وعدم القبول بخريطة مبيكي، والتعامل فقط مع حدود 1/1/1956م وإلا فلا.. أما أن يكون موقف الحكومة بين بين ومذبذباً لا نعرف فيه ما هو الرفض القاطع من الرفض الخجول أو ما يسمى الموقف «الخنثى» لا هو برافض حد الرفض ولا الموافق لدرجة الإذعان ..!! فهذا في كل الأحوال موقف يجرنا إلى ما لا تحمد عقباه.. وسنتورط أكثر ونصنع بأنفسنا أزمة جديدة كما يحدث الآن في المناطق الحدودية المطالب بها من دولة الجنوب، مثل «الميل 14» في ولاية شرق دارفور وحفرة النحاس في جنوب دارفور، ومازالت تجربة أبيي ماثلةً للعيان. وليس هناك ما يدفع الحكومة لتعليق موقفها في الهواء متأرجحاً للجانبين، وهي تعرف مآل التعامل مع خريطة مبيكي مهما كانت الممناعة وتدني درجتها وخفة صرامتها والموافقة وخطورة تداعياتها على الوضع الداخلي، فالأسلم هو حسم هذه القضية بموقف يحترمه الجميع، باعتبار أن ملف الحدود محسوم بحدود 1/1/1956م، المعترف بها، لأننا بوصفنا دولة ما اعترفنا بدولة الجنوب عند إعلانها إلا على هذه الحدود، فهل يعد اعترافنا بها باطلاً إن كانت دولة غير معلومة الحدود ولا خريطة لها يتم التعامل معها دولياً؟؟ حكومتنا هي التي أوقعتنا في هذا المطب التفاوضي المعقد، وعليها التفكير في كيف سنخرج منه!!