بين الألم والتعليم يكتب المغتربون السودانيون سفرهم وقصصهم بمداد الغربة.. يرسمون ملامح مستقبل آتٍ مركوز في الاحلام والرغبات والاشواق.. يسكبون عرق التجربة في سنوات الهجر. وبمثلما أن الأم مدرسة شكلت فينا اللبنات الأولى في سلك الحياة.. وبمثلما أن أمة تتشكل على خشبات المسرح، فإن الغربة أيضاً حوش عريض تتلاقح فيه الافكار وتعتصر فيه التجارب.. ويتألم الشخوص من حرمانهم.. ولكنهم يتعلمون كيف أن الحياة كد وكدح ورهق وأرق.. سنوات تمضي سراعاً تهتز فيها الوجدانيات.. ويطول فيها الانتظار.. فأروع ما كتبه الشعراء من أدب المهاجر كان تعبيراً صادقاً عن ظواهر إنسانية لعبت فيها الغربة أدواراً أصيلة، فكتب إسحاق الحلنقي رائعة محمد الامين «بتتعلم من الأيام» مطلع الستينيات، وهي ذات الأغنية التي هزت مشاعر وقلوباً شتى، وزلزلت عروش وسلطان العاشقين، ذلك لأن كاتبها خاطب فطرة وطبيعة الإنسان الذي حتماً سيتعلم من الأيام، فالأغنية محشودة بالمناجاة والرجاءات والآمال المنتظرة بالعودة، وبافتراض أن القابضين على جمر ومعاناة الداخل يطالبون باستمرار كل من هجرهم بالعودة وقطع سنوات التيه في الغربة.. فكانت المناجاة تحكي عن الحقيقة. «تعال فرح ليالينا.. تعال قبل السنين تجري».. فكم من المغتربين طال غيابهم؟ وكم من المنتظرين طال انتظارهم؟.. والزمن لا يرحم. ولأن الغربة محطة جديرة بالتقييم والاعتبار، فهي جبل كبير من العذاب والحرمان.. وهي أيضاً بمنظور الحلنقي لا هناء فيها.. والهموم فيها مضاعفة.. «هناك غربتنا ما هنتنا.. هناك الهم بدل واحد يبين همين». وسيتعلم كل مغترب من تجربته التي امضاها وهو بعيد عن عيون الوطن.. سيتعلم كيف يعيد انتاج مستقبله؟ ويعيد ترتيب حساباته.. ويحاول استباق الخطى بحصد المكاسب من سنواته هناك.. ولكنه ربما يتفاجأ عند العودة بأن الأشياء ليست هي الأشياء.. وأن كل شيء قد تبدل.. وهناك أهل وأصدقاء ومعارف صاروا من زمرة الراحلين.. ثم يكتشف هو أيضاً أنه قد تبدل فسقطت أزاهير العمر «0912647861»