الخارجية الأمريكية ابتدعت نوعًا جديدًا من الدبلوماسية، وهي ما يعرف بالدبلوماسية المباشرة أو كما أسمتها هيلاري كلنتون الدبلوماسية الذكية، وتتلخص هذه الدبلوماسية في لقاء السفراء والدبلوماسيين بالمواطنين مباشرة، وذلك النوع من الدبلوماسية يتيح للسفير وأي دبلوماسي أمريكي أن يلتقي القيادات القبلية وزعماء العشائر. وقد طبقت كلنتون هذه السياسة في تركيا وإندونيسيا حيث زارت مناطق ريفية اجتمعت فيها بالأهالي وزعماء العشائر!! قرأت في هذه الصحيفة خبراً تعجبت له كثيراً، حيث استفسر المؤتمر الوطني وانتقد تحركات القائم بالأعمال الأمريكي في شرق السودان، ولماذا المؤتمر الوطني؟! هل هناك علاقة مباشرة بين المؤتمر الوطني والسفارة؟! أين وزارة الخارجية؟! وما دورها؟! السفير أو أي دبلوماسي سوداني لا يستطيع مغادرة واشنطون دون إذن مسبق، هذا إذا سُمح له!! وقد لا أبالغ إن قلت إن الدبلوماسي السوداني في واشنطن قد يحاسَب على وجوده في ميريلاند أو ڤيرجينيا، رغم أن هاتين المدينتين في موقع أم درمان وبحري من الخرطوم؟! أقول للأخ قطبي المهدي إن اهتمام أمريكا بالشرق لم يبدأ بزيارات القائم بالأعمال الأمريكي، بل إن ذلك الاهتمام بدأ قبل أكثر من ستين عاماً، فإبان الحرب العالمية الثانية وضع الأمريكان أعينهم على شاطئ البحر الأحمر، ووصفوا ميناء بورتسودان بالميناء الفولاذي لإمكانيته الضخمة للاستيعاب كما وضعوا نصب أعينهم حلايب فهي المكان الأصلح على طول ساح البحر الأحمر شرقاً وغرباً لإنشاء قواعد بحرية تستطيع التحكم في الملاحة وفي البحر الأحمر الإستراتيجي!! روبرت ماكنمارا، كان ضابطاً في الجيش الأمريكي وصديقاً لدوايت آيزنهاور قائد جيوش الحلفاء أثناء تلك الحرب، زار ماكنمارا بورتسودان في أربعينيات القرن الماضي إبان الحرب، وأعجب بالموقع أيما إعجاب كما زار منطقة حلايب وقاعدة وادي سيدنا والفاشر!! بعد انتهاء الحرب عينه صديقه آيزنهاور الذي انتُخب رئيساً للولايات المتحدة ليس لشيء إلا لأن أجهزة الإعلام الأمريكية قد ضخَّمت دوره في الحرب وكأنه المنتصر في تلك الحرب. الصديق عيَّن صديقه وزيرًا للدفاع، تم انتخاب آيرزنهاور رئيساً للجمهورية، وهو الرئيس الأفقر سياسياً بين كل الرؤساء الذين مروا على البيت الأبيض!! منافسه الديمقراطي أدلاي ستيڤنسون كان من أميز السياسيين العالميين في خمسينيات القرن الماضي فقد كان محامياً بارعاً ومتحدثاً لبقاً وسياسياً محنكاً إلا أن الدعاية الإعلامية الضخمة التي ساندت آيزنهاور هي التي أثرت في الناخبين فكان أن فاز آيزنهاور على السياسي اللبق استيفنسون!! ظهور أمريكا في شكل المنتصر في الحرب العالمية الثانية وبروزها للعالم كقوة وريثة لأكبر أمبراطوريتين حكمتا العالم «بريطانيا وفرنسا» كان يحتم على أمريكا أن يكون رئيسها ذا طابع عسكري، خاصة وقد ظهر عملاق آخر كان السبب الأساس في هزيمة ألمانيا وهو الاتحاد السوڤيتي!! كانت أمريكاغني الحرب الوحيد في كل العالم، حيث أرغمت أوربا الجريحة على دفع كل دولار أنفقته على أوربا وأخذته مضاعفاً، أمريكا تأخذ ثمن كل ما قدمته من غذاء وكساء ودواء وسلاح ذهباً، فكانت السفن تفرغ البضائع لأروبا وتأخذ الثمن ذهباً وتعود به إلى أمريكا!! وحين نفد الذهب كانت اللوحات الفنية لأشهر رسامي أوروبا والنفائس الأثرية هي الثمن، وما دخلت أمريكا الحرب إلا بعد أن أصبحت أوروبا بدرجة من الضعف لا تسمح لها بالاستسلام، وكانت خشية أمريكا أكبر حين استعاد الاتحاد السوفيتي أنفاسه وتلقى الضربة الأولى رغم خسائرها الفادحة وبدأ زحفاً عكسياً تجاه أوربا، ففي حين كان الجيش الأحمر على مشارف برلين كانت جيوش الحلفاء على بعد ستمائة كيلو متر، ومن الطرائف في هذه الحرب أن القائد الأمريكي سأل خبراءه كم من الجنود سنفقد لندخل برلين فجاءته التقديرات بأن دخول برلين وحدها سيكلف الجيش الأمريكي ثلاثين ألف قتيل، فكان رده دعوا الروس يحررونها!! فرانكلين ديلانو روزفلت الرئيس الأمريكي المقعد والوحيد الذي انتخب في التاريخ الأمريكي لثلاث دورات متتالية ويلقبه الأمريكان إعجاباً FDR وقد وضعوا صورته على العملة فئة الدولار. روزفلت هذا كان يخطط لإضعاف بريطانيا بعد أن سقطت فرنسا، وفي حديث له قال عن تشرشل إنه لا يفكر في نتيجة الحرب بقدرما يفكر في وضع بريطانيا بعد الحرب!! ونعود للشرق وزيارات القائم بالأعمال الأمريكي، وقد ذكرت أن روبرت ماكنمارا قد زار الشرق في الأربعينيات إبان الحرب وأبدى إعجابه بالساحل المهول «سبعمائة وستين كليومترًا» على البحر الأحمر ومواقع حلايب وبورتسودان ومناطق أخرى بهذا الساحل أسالت اللعاب الأمريكي!! عرف كاكنمارا السودان وهو ضابط بالجيش الأمريكي وعرفه كذلك وهو وزير للدفاع وعرفه مرة أخرى وهو مدير للبنك الدولي، وفي كل الحالات سجل زيارات للسودان!!فقد وضع سياسة تجاه شرق السودان ودارفور منذ ستين عاماً وأكثر ويجري تطبيقها الآن على أرض الواقع تحت سمع وبصر الدولة واحتجاج المؤتمر الوطني!! الدبلوماسية المباشرة يجري تطبيقها أمريكيًا ولا ترى أمريكا فيها عيباً بل أصبحت سياسة دولة، فلماذا ترضى بها دولتنا ويصدر الاحتجاج عليها من غير الجهة الرسمية التي تعرف بوزارة الخارجية؟!! لقد قدم السودان التنازلات للدرجة التي أصبح فيها بلا قيمة ولا وزن، ويظن السياسيون أن هذه التنازلات سوف تفتح عليهم أبواب الجنة الأمريكية، رغم أنهم سمعوا ما قاله كيسنجر للسادات حين طالبه بتنفيذ الالتزامات التي التزمت بها أمريكا تجاه مصر بعد كامب ديڤيد فجاء رد كيسنجر ساخراً «نحن لا ندفع ثمن وجبة دخلت معدتنا وقد تم هضمها!! السياسيون في السودان الحاكمون منهم والمعارضون يغيب عنهم أمر هام، وهو كيفية رفع العقوبات، إنهم يظنون أن رفع العقوبات أمر غاية في السهولة ولكنه ليس كذلك، فالأمر يحتاج لعشرات السنين لتنفيذه!! وهناك مثل ظاهر للعيان، أمريكا فرضت عقوبات على نلسون مانديلا، ورغم أن الرجل رضخ للضغوط الأمريكية ووقّع على المعاهدة التي أعطت البيض الكثير وتركت السود على حالهم، وجعلت منهم رؤساء رمزيين وهي أشبه بنيفاشا التي وضع قوانينها خبراء قانونيون من جنوب إفريقيا هذا المانديلا تمت دعوته للولايات المتحدة والدستور الأمريكي يحرم دخوله بسبب العقوبات المفروضة عليه، تم الخروج من هذا المأزق بأن قامت السلطات بتزوير جواز سفر لمانديلا حتى يستطيع دخول أمريكا!! العلاقات بين السودان وأمريكا مقطوعة ولكن دون إعلان رسمي، ويلهث نظامنا ويستجدي أمريكا الغفران وهي تتمنع، ماذا لو طلب السودان المعاملة بالمثل وحدد عدد الدبلوماسيين الأمريكيين بذات العدد في سفارة السودان بواشنطون، فإذا كان في واشنطون خمسة دبلوماسيين ففي الخرطوم يجب أن يكون أيضاً خمسة دبلوماسيين أمريكيين..!! وليس خمسمائة!! سفارة أمريكا في الخرطوم اليوم أضخم سفارة في إفريقيا، فموقع السودان الذي يطل على غرب إفريقيا ومنطقة البحيرات والقرن الإفريقي والبحر الأحمر يؤهله لأن يلعب دورًا إقليمياً ودولياً ومؤثراً في السياسة الدولية، من هنا جاء الاهتمام بالسودان وعدم التخلي عنه لأهميته الإستراتيجية، فأمريكا التي تخطط لأكثر من ستين عاماً للتحكم في السودان، وقد نجحت بالفعل لم تخسر إلا القليل بل إن الذي خسرته لا يذكر، والخسارة الجسيمة تحملها السودان ويدفع الآن ثمنها تمزقاً وحروباً تنتهي باتفاقيات لا تطفئ نار الخصومة بل توسعها وتحولها من أزمة داخلية إلى نزاع إقليمي بين دولتين كان يضمهما بيت واحد!! أكبر خسارة يمكن أن تتكبدها أمريكا هي قطع علاقاتها مع السودان وهذا يعني عدم الوجود الدبلوماسي والاستخباراتي داخل السودان، كذلك تبقي على وجودها رغم أن كل المعاملات بين أمريكا والسودان تشير إلى علاقات بين البلدين..!! من حق السودان أن يطالب بعدد من الدبلوماسيين متساوٍ في البلدين، هذا يشكل كثيراً من النشاط الاستخباري، الذي يستخدم سياسة الدبلوماسية المباشرة في الاتصال بالمواطنين دون علم السلطات!! أرجو أن يقوم نظام الحكم بخطوة واحدة تُشعر المواطن السوداني بأن له وزنًا وقيمة وكرامة وقد كان كذلك على مر التاريخ!!