في العام (1989م) من الألفية السابقة قال الإمام الخوميني مفجر الثورة الإسلامية في إيران كلمته التي سارت بها الركبان وهي: (أنه: يقبل بوقف إطلاق النار مع العراق منهياً عقداً كاملاً من حرب الاستنزاف المكلفة كما يتجرع كأساً من السم)، فقد علم الرجل كما علم مستشاروه بأن الاستمرار في هذه الحرب اليائسة هو الإنتحار بعينه، بغض النظر عن حقهم المشروع في إدانة نظام البعث العراقي الذي كان هو من ابتدأ الحرب في عام (1981م)، لأن العراق لم يكن يحارب وحده بل كانت تسنده دول عربية عديدة تمتلك مقدرات نفطية هائلة تفوق تلك التي لإيران، كما كان يدعمه كذلك الغرب بكل عدائه للثورة الإسلامية في إيران. ورغبته في محاصرتها وعدم جعلها نموذجاً لدول المنطقة وإفشالها، كما كان النظام البعثي يتلقى دعماً بشرياً من متطوعة ومرتزقة جاءوا من الدول الأكثر فقراً بالمنطقة. والآن يحس مواطنو منطقة أبيي من المسيرية بذات إحساس الفقيه العجوز الإيراني الذي فقد أكثر من مليون من زهرة شباب بلده، وكان وقف إطلاق النار بالنسبة له مثل تجرع كأس السم.سوف نتجرع نحن أهل أبيي غصص هذا التقسيم لأسباب عديدة أهمها: 1/ ضبابية موقف حكومة السودان من المسألة برمتها بالإضافة إلى أن مفاوضيها قد أدخلوا المنطقة في نفق مظلم منذ توقيع برتكول أبيي في العام (2005م) الملحق، نحس نحن أبناء المنطقة بأن الحكومة تريد قفل هذا الملف وهي في عجلة من أمرها للوصول إلى تفاهم مع الجار الجديد الجنوبي بما أشعرنا بأن مصيرنا أصبح رهناً للمساومات السياسية. 2/ للأسف لا توجد وقفة واضحة من قبل المجتمع السوداني الواسع مع قضية أبيي. صحيح هنالك ردات فعل عاطفية وربت على الأكتاف كلما حقق المسيرية نصراً على الميدان بالتعاون مع قوات الشعب المسلحة، كما حدث في الاجتياح الأول والثاني لأبيي في الأعوام (2008 و2011م) على التوالي. إلا أن ردات الفعل الوقتية العاطفية هذه لم تترجم إطلاقاً إلى التزام بعيد المدى مع قضية أهلي في أبيي وظلت الكتابات الصحفية وغيرها منذ ظهور هذه الأزمة تتعامل مع أبيي كجزء بعيد ناءٍ عن الوطن لا يهم معظم الناس إلا على نحو رمزي في إطار الصراع مع دولة الجنوب. وأريد أن أستثني من ذلك وأقولها بكل وضوح رئيس الجمهورية عمر البشير فقد كانت مواقف الرجل دائماً مشرفة ملتصقة على نحو لا يقبل التأويل مع تلك القضية المصيرية لقطاع كبير من المسيرية عرفهم وعمل بينهم سنوات، أثبت هذا حتى أرجع الحق لأهله. 3/ تشرذم مجتمع المسيرية إلى اتجاهات ومجموعات ومصالح متنافسة ولا أقول متناحرة حول قضايا هامشية، كان لهذا التقسيم أسوأ الأثر على مجتمعنا المحلي وقدرته على الاتفاق والإجماع والتنظيم وبالتالي الضغط للمطالبة بالحقوق. فأصبحت جراء ذلك قضية أبيي طرفاً قصياً من اهتماماتنا، وكان ينبغي لها أن تكون في القلب، لما سيترتب عليها من آثار كبار ستعود بالويلات على مجتمع المسيرية كله إذا لا قدر الله وفقد السيطرة على أبيي. 4/ هنالك تغيرات متلاحقة وسريعة في دولة جنوب السودان التي هي أصلاً لم تتحول إلى دولة بعد فهي لا تتصرف كدولة إذ يسرح فهيا الفساد والانفلات الأمني والسيطرة القبلية ولا تزال تحكم قادتها ذهنية رجال العصابات ولا يردون، بل لا يستطيعون التصرف كرجال دولة. كل هذا قد أثبتته تقارير منظمات دولية مهتمة بالشأن الجنوبي ولا نقوله نحن. جعل هذا من الصعب الركون إلى أي اتفاقات أو وعود من دولة لا تستطيع بنائياً (Structural) الوفاء بالتزاماتها. وبالتالي تصبح الوعود بأن للمسيرية حقوقاً تاريخية في المراعي والمياه بمنطقة أبيي ضربًا من ضروب السخف لا يصدقه ولا يقوله إلا الحمقى. 5/ لقد ظهر لنا جلياً نحن أهل أبيي بأن معركتنا ليس مع جنوب السودان بل معركة أوسع من ذلك بكثير تورطت فيها دول ومنظمات ودبلوماسية وعمل تبشيري ويقف من وراء ذلك دعم سياسي ومالي جعل المعركة أكبر من حجم المسيرية بكثير مهما بلغت شجاعتهم وتفانيهم. إن القبول بالتقسيم لمنطقة أبيي استناداً إلى الواقع الذي رسمته أعلاه يبقى مع ذلك الخيار الأسوأ ويشبه تجرع كأس السم إلا أن الهرولة إليه من قصر النظر وعدم النضج السياسي وذلك لأن دولة الجنوب ومفاوضوها ومن يقف خلفهم عودونا باستمرار على أن يأتوا بسقوفات عالية بمطالبهم التفاوضية متى ما استشعروا أدنى ضعف في عرض مطالب السودان أو تفكك جبهته الداخلية. إذن علينا ألا نرسل أي إشارات تحوي أن التقسيم كحل نهائي لمشكلة أبيي هو هدفنا. وهذا ينطبق بصورة أساسية على الدور الشعبي غير الحكومي الذي ينبغي دائماً أن يكون أكثر تشدداً في المطالبة بالحقوق والضغوط على الوفد المفاوض للاستجابة بتلك المطالب. غير أن هذا لا ينفي أن التقسيم ليس هدفاً إستراتيجياً بالنسبة لنا، بقدر ما هو أي هذا الموقف خضوع للمقتضيات السياسية وتعقد المشهد السوداني. وما من شك بأن هنالك جهدًا كبيرًا ينبغي بذله مع أهل أبيي من قبل أبناء المسيرية المهمومين بقضايا منطقتهم والحكومتين الاتحادية والولائية في إقناع هؤلاء الأهل بأفضلية خيار التقسيم بدلاً من فقد المنطقة كلها. وهذا ليس بالأمر السهل؛ لأن أهلي في أبيي واكتشافها في كثير من الأحيان أكثر وعياً منا نحن المتعلمين.. فيما يتعلق بما سيترتب على فقد أبيي من نتائج كارثية على حياتهم بالمنطقة. المقترح: حتى نصل إلى تقسيم مرضٍ يخاطب آثار المشكلة على المدى البعيد يجب اتخاذ بعض الخطوات ألخصها في الآتي: 1/ الإشراك الفعلي لخبراء وطنيين هم موجودون الآن وعلى صلة وخلفية بالمشكلة إلا أنني أقترح توسيع دائراتهم لتشمل انثربولوجيين على علاقة بالمنطقة مثل د. حامد البشير إبراهيم، وجغرافيين مثل العمدة حمدين ايدام وعلي خمدان كير. إشراكهم وإشراك غيرهم بجدية والاستماع لنصحهم. 2/ إن مشكلة أبيي مشكلة مواد في الأساس فلولا النفط الذي تسبح فيه والمياه والمراعي والغابات والأراضي الزراعية الخصبة لما تعارك عليها السياسيون. أما أهل المنطقة من الدينكا والمسيرية فقد استطاعوا برغم كل شيء العيش معاً فترات طويلة وتقاسموا هذه الموارد لحياة أفضل لكليهما وما يبدو الآن من تنافس بينهم هو صنعة سياسية. 3/ أهم هذه الموارد هي المياه بافتراض تقسيم أبيي نصفين متعادلين بين الدينكا والمسيرية وحتى يستطيع رعاة المسيرية الوصول إلى بحر العرب وما فيه أرقاب فلا مناص البتة من أن تقسم منطقة أبيي رأسياً وفقاً لخطوط الطول وليس على المستوى الأفقي الذي تستند إليه دوائر العرض، كما جرت العادة دائماًَ ما بين الشمال والجنوب أي بمعنى جعل أبيي جزئين: أحدهما غربي والآخر شرقي. 4/ بهذه الطريقة سوف يتمكن رعاة المسيرية وغيرهم من المجموعات الرعوية الوصول إلى منطقة بحر العرب التي تمثل لهم أهمية إستراتيجية لإعادة إنتاج نمط حياتهم الاقتصادي والاجتماعي. ويقودني هذا إلى أمر آخر عادة ما يتم إغفاله هو الأهمية الرمزية لمنطقة بحر العرب والرقاب ليس فقط كمصادر للمياه والأراضي الخصبة وحياة الصيد وحتى ثمار الغابات لأهلي من المسيرية ولكن دخولنا كمكون أساسي في الفلكلور والثقافة المحلية التي انعكست في شكل الأغاني والأحاجي والأساطير التي كونت شخصية المسيرية كما نعرفها اليوم. إن هذا المقال دعوة لأن يكون تجرعنا لمر كأس التقسيم تجرعاً رحيماً. وأنى في ذلك لعبرة.