منذ اليوم الأول الذي تم الاحتفال فيه بقيام دولة الجنوب ظلت العلاقات متوترة بين الدولة الأم والدولة الوليدة الجديدة وفي أول خطاب له أعلن رئيس دولة الجنوب وعلى رؤوس الأشهاد أنه لن يتخلى عن حلفائه الشماليين الذين ناصروهم وكانوا يحملون معهم السلاح وقد بر بوعده وعهده معهم وكان سنداً وظهيراً لهم ضد وطنهم الذي أثخنوه بالجراح وقاموا ضده بكل عمل غير مباح. وطوال الخمسة عشر شهراً المنصرمة كانت العلاقات بين الدولتين في غاية الرداءة والسوء مع السعي المتصل للضرب تحت الحزام وبعد الانفصال مباشرة بدأت حرب اقتصادية غير أخلاقية عند تغيير العملة وكانوا يمتلكون ويخزنون أموالاً طائلة بالعملة السودانية وأرادوا تهريبها من الجنوب للشمال وتحويلها لعملة حرة وسعوا لرفع قيمة الدولار في الشمال وامتنعوا عن دفع قيمة مستحقات السودان في النفط نظير مروره بأراضيه وأنابيبه ومصافيه وكان هدفهم هو حدوث عجز في الميزانية وانهيار اقتصادي وتضخم رهيب يتبعه ارتفاع جنوني في الأسعار وفوضى وانفلات في الأسواق يؤدي لتذمر وانفجار تلقائي وانتفاضة شعبية عارمة تدعمها عسكرياً الحركات المتمردة وما يسمى بالجبهة الثورية ولكن الشعب السوداني العظيم الصابر «البشيل فوق الدبر» تسامى على مراراته ومعاناته ومن أجل سيادته الوطنية وعزة ترابه وقف ترياقاً مضاداً ضد هذه المخططات الآثمة التي تقف خلفها وتدعمها قوى الشر الأجنبية، وعندما اضطرت الحكومة وهي مكرهة لإيقاف الحقارة والاستخفاف بأخذ مستحقاتها عيناً من النفط أقامت حكومة الحركة الشعبية الدنيا ولم تقعدها ووصفت قادة حكومة السودان بأنهم لصوص وقطاع طرق وأوقفت حكومة الجنوب ضخ النفط وكانوا هم الأكثر تضرراً ومن الطبيعي في مثل هذه الظروف أن تتأثر التجارة الحدودية ويتوقف التهريب. وقد أرادت الحركة الشعبية أن تحكم الجنوب وتبسط هيمنتها عليه وفي نفس الوقت أرادت أن تكون وصية على الشمال بدعمها المالي واللوجستي السخي لقطاع الشمال ليكون هو ذراعها في جمهورية السودان. وإن الحلقة الضيقة والقلة المتنفذه في قطاع الشمال تشمل ثلاثة يضاف إليهم آخرون لا يزيد عددهم على أصابع اليد الواحدة ظلوا يتحدثون عن الجنوب الجديد مع تهديداتهم بالهجمات العسكرية عن طريق الفرقتين التاسعة والعاشرة وأعلنوا أن لهم خلايا نائمة في العاصمة وغيرها وهدفهم ومبتغاهم الوصول لاتفاقية تماثل اتفاقية نيفاشا يقتسمون بموجبها السلطة مع المؤتمر الوطني ويصبحون ورثة للجنوبيين المنتمين للحركة الشعبية الذين كانوا يشغلون وظائف دستورية سيادية وتنفيذية وتشريعية في الشمال على كل المستويات الاتحادية والولائية وقد ملأت تلك القلة الدنيا صخباً وضجيجاً وكانوا وراء كل المآسي الدموية التي حدثت في النيل الأزرق وجنوب كردفان وهمهم الرئيس هو السلطة والجاه ولا تعنيهم قضايا المنطقتين وتنميتهما في قليل أو كثير «والجمرة بتحرق الواطيها» وهذا أمر يشغل بال أبناء المنطقتين من أهل المصلحة الحقيقية ولا أحد يمنع أولئك المنتفذين في قطاع الشمال من العودة وتسجيل حزبهم مع الالتزام بوضع السلاح وممارسة حقوقهم السياسية والحزبية بالطرق السلمية كما تفعل ذلك عشرات الأحزاب المسجلة. وقد توصل الرئيسان البشير وسلفا كير في أديس أببا لاتفاقيات في مجمل القضايا المطروحة باستثناء الحدود وقضية أبيي. وبالطبع فإن الاتفاق حول النفط لو تم تطبيقه كما هو متفق عليه فإن فيه فائدة مشتركة للطرفين والملف الأمني اذا طبق كما هو متفق عليه فإنه يؤدي لبسط الأمن وإيقاف المناوشات العسكرية والمواجهات الحربية وينبغى أن تلتزم حكومة السودان بعدم دعم أي حركة معارضة في الجنوب مدنية كانت أو عسكرية ومن جانب آخر فإن على حكومة الجنوب فض ارتباطها بقطاع الشمال وعدم دعمه مالياً ولوجستياً وفض ارتباطها بالفرقتين التاسعة والعاشرة وفض أي تحالف لها مع الحركات الدارفورية المتمردة وتحالف كاودا والجبهة الثورية. واذا التزم الطرفان بكف أي واحد منهما أذاه عن الآخر فإن هذا يؤدي لبناء جسور الثقة والجوار الآمن والتعاون وتبادل المنافع. أما قضية أبيي فإن الذين يؤججون نيرانها هم الذين يطلق عليهم أبناء أبيي في الحركة الشعبية الذين يشغلون الآن مواقع حزبية وحكومية رفيعة وإن ضم منطقة أبيي للجنوب يضمن لهم الاستمرار في هذه المواقع القيادية ولكن إذا لم يتحقق لهم مبتغاهم فإنهم سيفقدون مواقعهم القيادية. وإن الخريطة التي أقرتها محكمة لاهاي تقع فيها القرية التي وُلد فيها دينق الور في الشمال وإذا تم العمل بتلك الخريطة فإن دينق ألور يغدو شمالياًَ ولذلك فإنه يقود المساعي الحثيثة لجنوبة أبيي بل إنه يرى أنها ينبغي أن تكون هي القضية المحورية في المفاوضات رغم انها لا تشكل هاجساً لسلفا كير أو لمشار أو لباقان لأن الأول لا تربطه علاقة بالمنطقة وهو ليس من قبيلة نوك والثاني من النوير والثالث من الشلك. وإن أبيي منطقة تعايش يمكن أن يتساكن فيها دينكا نوك والمسيرية وغيرهم في هدوء حتي تنجلي الأوضاع مع حفظ الحقوق التاريخية لكل طرف من الأطراف ويمكن أن يعيش سكانها سوياً كما كانوا يتعايشون على مدى مئات السنين وإن أي تدخل من مجلس الأمن كما يدّعي ويأمل دينق ألور فإن هذا سيؤدي لإلغاء كل ما تم التوصل إليه والعودة مرة أخرى للمربع صفر. وهناك قضايا كثيرة مماثلة أخذت زمناً طويلاً كقضية كشمير وقضية البلساريو. وينبغي دعم كل الإيجابيات في الاتفاقيات التي تم التوقيع عليها في أديس أببا وتعتبر هذه الخطوة هي الجهاد الأصغر أما الجهاد الأكبر فهو العمل على تنفيذها بكل حسم وحزم وصرامة لاسيما في الجوانب الأمنية التي تساهم في إرساء الدعائم الاقتصادية وغيرها.