كان زميل دراسة في مرحلة الأساس. بعد تدريس كلّ محفوظة جديدة من المحفوظات، كان الأستاذ يسأل مَن يقوم بتلحين هذه المحفوظة، فكان (عوض الحاج) أكثر التلاميذ دراية بتنغيم (النشيد) أو (المحفوظة)، على لحن من الألحان الشهيرة. كان (عوض الحاج) صاحب قدح معلَّى في تلحين الأناشيد والمحفوظات. ثم اشتهر عوض بالعزف البارع على (الفلوت) أي الصُّفارة. ثمَّ في السنة الرابعة بدأ التلاميذ يدركون أن (عوض) مصاب بمرض نادر. مرض إذا تعرّض الإنسان المصاب به لجرح، سيظل جرحه ينزف بلا توقف. أي أن دمه لا يتخثَّر. كان عوض الحاج مصاباً ب(هيموفيليا). لم يكن أحد من الأهل أو التلاميذ أو معلِّميه يدري اسم هذا المرض النادر الغريب. فقط كانوا يعرفون ماذا سيحدث للإنسان إذا أصيب به. لكن (عوض) تعايش مع المرض النادر بروحه المرحة الضاحكة وحيويته الفائقة، وطوّر مواهبه كأن المرض لم يكن، ليصبح عازف (كمان) ماهر. وشهدت (دار رعاية الشباب) بود مدني (كانت تقع أمام دار النادي الأهلي) شرق حي السناهير، شهدت مهارات (عوض) الموسيقية. في بداية المرحلة الثانوية كان لا بدّ من وضع معالجة ل(الهيموفيليا). فكان أن رتبت أسرة (عوض) سفره إلى بريطانيا للعلاج. وهناك فرضت عليه ظروفه الصحيَّة البقاء في لندن (35) عاماً، هي بقية عمره، لمتابعة العلاج. لكن رغم المنفى الطبّي الصّحيّ الإجباري والوحشة والإنفراد والغربة، تفتحت شخصية (عوض) الودودة في لندن زهرةً رائعةً، فتحلّق حوله مئات الأصدقاء، وهو يتدفق عليهم مودةً بلا حدود ولطفاً بلا ضفاف. شخصية عوض الحاج من قلائل الشخصيات في هذه الدنيا التي تعجز المفردات عن وصف عذوبتها. كان له قبول واسع عميق في قلوب الناس، سودانيين وانجليز، وغيرهم. كان صادقاً وفيَّاً باسماً. كانت (شقته) ملاذاً وواحة إنسانية تلتقي فيها القلوب. كان يسمِّيها ضاحكاً (البَنِيَّة). تقع (بَنِيَّة) عوض بالقرب من جامعة لندن. كان يلتف حوله الجميع. وكان عوض الموهوب يذوب في الجميع متواضعاً لا (متأندِر) ولا (متفلقص) ولا (متفلهم) ولا (متعنطظ). في لندن طوَّر (عوض) مواهبه في مجال التصوير الفتوغرافي. كان يحتفظ في منفاه بكمية من تسجيلات الغناء السوداني لا تتوفر لفردٍ واحد. كميَّات تحسده عليها إذاعة هنا أم درمان. تضمُّ مكتبة عوض الحاج من الأغاني تسجيلات نادرة. صنع عوض من مكتبته للأغاني (وطن بديل)، وطناً وجدانياً سودانياً يتقلَّب في رحابه. هناك كان (عوض) يدفن شجنه ووحدته وغربته. يدفن حبَّه العميق للسودان. كان عوض يحب السودان حبّاً صوفيّاً. رغم العلاج الطويل والغربة الحزينة الممتدة، لم تكن تفارقه يوماً واحداً سودانيته الأصيلة. كان يزور السودان كلما حانت سانحة. وذلك يحدث مرة كل عدد من السنوات المتطاولة. استمر عوض منذ مطلع السبعينات في العلاج من (الهيموفيليا). كانت الأيام تزيد (عوض) ظرفاً ولطفاً وودَّاً. كان كل يوم يحكي لليوم الآخر حلاوة طبع عوض وظرفه. كان له مفردات ودودة في السلام خاصة به، أنتجتها روحه الجميلة المبدعة. كان كريم النفس ينفق على الناس من طيبات مشاعره الشفيفة الراقية. إذا كان الثراء هو حُسن الخُلُق، فقد كان (عوض) من الأثرياء. ثم شاءت الأقدار أن يصاب (عوض) بسرطان شرس كتب له نهاية سريعة فاجعة، وسط صدمة أصدقائه الكثر. إشتهر (عوض) بين أصدقائه ب(عوض أبو الجاز). بعد اغترابه الطويل انتقل (عوض) إلى دار الخلود، تاركاً وراءه طيبته ودماثة أخلاقه التي لا تفسِّرها الكلمات لمثل (عوض) تبكي الأقلام حروفاً حزينة.. ألا رحمة الله الواسعة عليه.