ترسخت القناعة لدى القائمين على أمر الدول والمجتمعات، بضرورة الاعتماد على فكرة مدروسة، وأطروحات قتلت بحثاً قبل إصدار القرارات، واعتماد الخطط، وتنفيذ المشروعات، وما من ثمرة أثمرتها الأشجار الطيبة إلا وكانت بفضل الرعاية وحسن السقاية بالمتابعة اللصيقة، وعدم الكف عن إعمال الفكرة لضمان نجاح عملية الاثمار. وهكذا فإن الدول والمجتمعات، وكذلك المجموعات الحزبية، والمنظمات في عالمنا المعاصر، وخاصة تلك التي كان من نصيبها رؤية خططها قد تجسدت على أرض الواقع إنجازاً، قد اعتمدت عمليات التفكير أساساً لنشاطاتها، وخصصت لذلك مراكز تضج بالمفكرين أصحاب التخصص، والمعروفين بدقتهم وعلميتهم، في تقصي المعلومات ورصدها، والوصول إلى النتائج، ورفعها إلى من يفترض فيهم وضعها موضع التنفيذ، دون الاجتهاد مرة أخرى لحذف ما نصت عليه، امتثالاً لقاعدة اسأل مجرباً ولا تسأل طبيباً، فالخبز يصنع من القمح، وتسبق ذلك عمليات طحنه ليصبح دقيقاً إلى أن ينتهي الأمر بتحويله إلى خبزٍ لا يصنعه الا الخباز.وهذه الدنيا وفقاً لأقدار الله فى شؤونها، قد جعلت لكل صنعة صانعاً، ولكل مهنة من أجاد عناصرها، وتدرب على اختصاصاتها، ويأتي نشاط التفكير ليس بعيداً عن هذا السياق، فالدولة المحترمة والحزب محكم الهياكل والمؤسسة المنضبطة، هى جميعاً معنية باتباع ذلك النهج الفريد الذي أثبت نجاحه بوضع التفكير والمفكرين في أعلى سلم الأولويات. ولقد هيأ الله لشخصي الضعيف زيارة بلاد في مختلف أنحاء هذا العالم، فأتاحت لي تلك الفرصة الوقوف على مشاريع ناجحة، ومدن يتجلى في شكلها جمال المنظر وسلاسة الخدمة، وعندما استفسرت عن الأسباب التي كانت وراء تلك النجاحات، ومن كان وراء ذلك التخطيط مما أسفر عنه ما رأيت من جمال وبهاء مشهود فى العمارة والطرقات وغير ذلك من أوجه الحياة، وجدت أن الإجابة لا تتصل بالمهندس أو التنفيذي المعني بالتنفيذ، بقدر ما كانت الإشادة بمن وضعوا الفكرة ودرسوها، وسجلت أسماؤهم فى سجل التاريخ والإنجاز بتلك البلدان. وإذا كان هناك طموحُُ يحدونا، لإقامة دولة راسخة ومجتمع متحضر، فإن أولياء الأمر مطالبون بعد قولهم بسم الله الرحمن الرحيم، أن يبحثوا بادئ ذى بدء عن أهل الحكمة، أنَّى كانوا، وعن المفكرين مهما كان الجهد للبحث عنهم مضنياً، وألا يتم عقد النيَّة لإصدار قرارٍ، أو البدء فى مشروع ما لم تكن وراء ذلك فكرة درست، وعقول أعملت عقلها، وخبراء غاصوا فى الدراسة لاستكناه الحقائق، ثم من بعد ذلك توضع المخرجات التى توصلوا إليها موضع التنفيذ، باعتبار أنها جاءت من مراكز للتفكير، وهذا هو الجد والإتقان، وما عداه هو العبث وضياع الموارد والطيش الذي يكون دائماً من نصيب الذي يخبط بلا فكرة ولا رؤية، فيتخبط كما يتخبط العميان. ومراكز التفكير هي الضمانة الوحيدة لعلاج أزمات الدولة والمجتمع، والذي لا عقل له سيكون مردود عمله ونشاطه متواضعاً، إن لم يكن في الخانة الصفرية التي هي بالتأكيد خصماً على مقدرات الشعوب وخاصة ما سيأتي من أجيال.