لا أنسى يوم أن دخلت تلك الباخرة مدينة جدة وهي استغرقت حوالى ست عشرة ساعة لم أذق فيها طعم النوم وذلك ليس بسبب دوار البحر، وإنما كان يتملكني شعور متباين تارة بالفرحة وتارة أخرى بالحزن والخوف من ماذا لا أعرف.. وكانت الدهشة الأولى بالنسبة لي ميناء جدة ثم مدينة جدة ومدينة الحجاج وما بها من تسهيلات للمعتمرين، وكانت الدهشة الكبرى والرعشة الغريبة التي ارتعد لها جميع ما بجسمي عندما رأيت الكعبة المشرفة للمرة الأولى أمام أعيني وعندها أحسست بأن أطرافي كلها قد أصابها نوع من التنميل وقلت الحمد لله الذي سخر لي هذا وأتممت العمرة كما ينبغي وأرجو من الله القبول والأجر وحسن الثواب. ومن ثم بعد ذلك ذهبت إلى المدينةالمنورة وزرت قبر الرسول، صلى الله عليه وسلم، وتذكرت المدحة التي تقول «بالله عليكم يا زوار قبر محمد هيجتم يوم الرحيل فؤادي» وتمنيت أن لا أرحل من مدينة الرسول أبدًا لأنها مدينة ليست كباقي المدن.. إنها مدينة تشعر فيها بالراحة والطمأنينة وصفاء البال، وأن أهلها مشهورون بالطيبة وحسن التعامل وذلك ليس بغريب لأنهم من سلالة أنصار رسول الله، صلى الله عليه وسلم. وبيني وبين نفسي تمنيت أن أجد عملاً هنا في المدينة. ولكن بما أنني ذهبت لأداء العمرة كان يجب أن أمكث فترة محددة ومن ثم يبدأ التفويج ومن ثم الرجوع إلى السودان. ولكن كان هناك في السابق ثقافة «عمرة وزوغة» وفعلاً وجدت أحداً من أقربائي فسهل لي السفر معه لبلدة تبعد من المدينة حوالى 150 كيلو مترًا وذهبت معه، وكانت في تلك الفترة تكثر حملات شرطة الجوازات في تلك المناطق وذلك لقربها من المدينةالمنورة، وما إن حططنا رحالنا في تلك القرية البعيدة وذهبت معه لمكانه ووجدت معه مجموعة من السودانيين فيهم المقيم وفيهم أيضاً متخلفون من العمرة، ولكني أحسست منذ الوهلة الأولى بأني غير مرحب بي في هذه الديار وذلك ليس لسبب وإنما لأنني من الذين يسمون متخلفي العمرة وسوف أسبب لهم مشكلة لو قُبض عليّ وأنا معهم سوف أتسبب في تسفيرهم وقطع عيشهم، ولكن قريبي هذا لمس مني عدم الرضا وأوحى لي بأن لا أعيرهم اهتماماً وإن شاء الله سوف تتحصل على عمل مجزٍ وفي خلال ستة أشهر سوف تعمل التأشيرة وترجع، ولكنني قررت الرجوع إلى المدينةالمنورة ولم أنم في تلك الليلة التي حضرنا فيها لتلك القرية وعندما جاء الصباح تكلمت مع قريبي هذا وأخبرته بأنني سوف أرجع إلى المدينةالمنورة ومن هناك سوف أتحصل على تأشيرة عمل وقال لي بأن رجوعك للمدينة فيه خطورة عليك وسوف تقبض عليك شرطة الجوازات وأخبرته بأنه قد تبقى لي بعض الأيام في تأشيرة العمرة ويجب أن أرجع حتى وإن قُبض عليّ وذلك خيرٌ لي من أن أجلس مع أناس لا يرغبون في أن أجلس معهم «ومعهم حق». وذهبت إلى المدينةالمنورة وتوفقت ودخلتها للمرة الثانية وهناك وجدت قريبًا آخر مقيمًا، والذي لا أنسى جميله عليّ حينما ساعدني في إيجاد تأشيرة العمل التي لم أتمكن من استلامها في حينها، ومن ثم ذهبت إلى جدة وتقريباً وصلت في أخر يوم في تأشيرة العمرة ولم أتخلف يوماً، وعدت للسودان والعود أحمد، في انتظار تأشيرة العمل التي وُعدت بأن ترسل لي في السودان. نواصل..