الدكتور أبو بكر يوسف إبراهيم، أحد الطيور المهاجرة التي غادرت السودان منذ سبعينيات القرن الماضي من أجل إرضاء تطلعاته واكتشاف العالم الخارجي، وأثناء تجواله تحصَّل على بكالوريوس هندسة ميكانيكا السيارات من جامعة كالتيك بالولايات المتحدةالأمريكية ونال الماجستير في إدارة الأعمال من جامعة يكسفورد بإيرلندا، وأيضًا حصل على الدكتوراه في فلسفة الموارد البشرية من جامعة هاليفاكس بكندا وحطت به رحال الغربة أخيرًا في المملكة العربية السعودية بمدينة الرياض ويعمل حالياً استشاريًا في شركة تعمل في مجال فحص سلامة المركبات وحماية البيئة من انبعاثات غازاتها، فالدكتور مهندس وشاعر وكاتب وإعلامي بجانب أن له إسهامات ملموسة في المملكة وسط السودانيين هنالك.. (نافذة مهاجر) التقته في هذه السانحة للتعرُّف على تجربته في الغربة فماذا قال: ٭٭ متى بدأت الغربة وما الأسباب التي دعتك لاختيار طريقها؟ اغتربت منذ عام 1974م ولم يكن الدافع المادي وراء هجرتي لكن كان جموح الشباب وتطلعاته لاستكشاف عوالم أخرى كان يحلم برؤيتها والتي غرسها في نفسي أستاذ الجغرافية، الذي أذكره بالخير دوماً واسمه جمعة جابر في المرحلة الأولية، حيث كان يصطحبنا في رحلات خيالية وكلنا يذكر جرينتش في هولندا.. إلخ. ٭٭ ماذا أضافت لك الغربة؟ الغربة فتحت لي آفاق التعرُّف على بلدان وأناس وثقافات جديدة، بجانب إكمال طموحي في تحصيل العلم، وحضور دورات متقدمة ما كان لي أن أحصل عليها وأيضًا الاحتكاك بخبراء من مختلف البلدان واكتساب عضويات هيئات ومؤسسات دولية، وأضافت لي أيضًا التعريف بالوطن والدفاع عن قضاياه في محافل دولية إذ كنت أحمل وطني في أحاسيسي ومشاعري وخيالي وأمنياتي. ٭٭ ماذا خصمت منك الغربة؟ الآن بدأت أسئلتك تنكأ جرحاً غائراً، فالغربة أخذت منا زهرة شبابنا وحرقت أعمارنا، حرمتنا من الوجود بين الأهل والأصدقاء والخلان، وحرمتنا أن نعيش تطورات وأحداث الوطن لحظياً، وحرمتنا من تلك العلاقات الاجتماعية التي يتميَّز بها شعبنا، وأيضًا حرمتنا أن نعيش الأفراح وأن لا نواسي في الأتراح إلا من على البعد، الغربة يمكن أن تؤثر في ثقافة الإنسان التي تربى عليها.. ربما حققت لنا بعض الطموحات الجامحة ولكنها حرمتنا مشاعر متعة العيش في تراب الوطن وبين أهله.. الغربة علمتنا كيف نشتاق بحزن وكيف يسكن الحنين فينا ويصبح سبباً للعديد من الأمراض المزمنة التي داهمتنا هنا وما كانت لتصيبنا لو كنا داخل الوطن!!. ٭٭ موقف مر بك في الغربة ووقفت فيه كثيرًا؟ كنت في رحلة عمل أزور فيها عدة بلدان في جنوب شرق وغرب آسيا، كنت مهتماً بمعرفة الحياة الاقتصادية والمعيشية للمسلمين في تلك البلاد، فطلبت من مرافقي أن يصطحبني لمطعم شعبي حتى أتعرف على الحالة المعيشية وما شاهدته لا يمكن تخيله أو تصديقه إن قصصته، صدقيني دمعت عيناي، وحمدت الله حمداً كثيراً وقلت في نفسي رغم الضائقة المعيشية التي نعيشها في سنين العسرة في أول سنين الإنقاذ والآن أيضاً قلت في نفسي: «والله نحن شعب بطران وحمدت الله على ما نحن فيه!!». ٭٭ متى تشعر بالغربة؟ أشعر بالغربة حينما يعصف بي الحنين للوطن والأهل حد الوجع والألم وحينما أذكر الخلان الأصفياء الأصدقاء الذين رحلوا عن دنيانا وقد فرقتنا الغربة وحينما نعود للوطن ونفتقدهم نشعر بأننا أصبحنا غرباء حتى داخل الوطن، ولكن عزاءنا أن بعضهم ما زال هناك أمد الله في أيامهم ليكفكف دمعاتنا. ٭٭ ماذا تعني لك الغربة؟ للغربة عدة معاني تختلف بتطور العمر، فالغربة في الشباب جموح وطموح، وفي الكهولة خوف على مستقبل وهوية الفلذات، ومرحلة الشيخوخة وهي المرحلة التي تدفع فيها كل الفواتير ومنها ثمن الطموح والجموح إنها مرحلة الخوف من المجهول بعد أن حدث انفصام اجتماعي نفسي وثقافي من جرائها. ٭٭ قراءتك للوضع السياسي الراهن في البلاد؟ بلادنا بألف خير وأهلنا بالداخل لا يدركون كيف تعيش بعض الشعوب التي تعتبر دولها متقدمة نسبياً بالمقارنة لبلادنا فلو شاهدوا ما شاهدت لحمدوا الله حمداً كثيراً وجميلاً، ولكن علينا أن نعطي الدولة فرصة لتعمل وعليها أيضاً أن تعمل من أجل أن يعيش المواطن في يومه مطمئناً، ولكن كيف تعمل وهناك من يحمل السلاح ليحقق طموحات شخصية، فالبعض لا يفرق بين قدسية الوطن ومعارضة النظام، وهؤلاء يحتاجون إلى وقفة مع النفس ومراجعة مواقفهم فمهما استقووا اليوم بالخارج لا بد أن يأتي اليوم الذي ستتخلى عنهم هذه القوى الداعمة لهم، وأنا أتوقع أن السودان مقبل على خير كثير، فإن مع العسر يسرا. ٭٭ كيف تنظر للوضع الاقتصادي في البلاد؟ ما يؤرقني هو ما نسمعه عن استشراء الفساد، والذي يجب العمل على اجتثاثه يكون ذلك في مقدمة أولويات الأخ الرئيس البشير، والفساد هو معول هدم الاقتصاد. ٭٭ وما هي الحلول؟ والحلول هي الإنتاج وفق خطط محددة المواقيت لا تتغير بتغير الوزراء، فالهند في عقد السبعينيات من القرن الماضي وضعت خطة لمحاربة الجوع وتحقق لها خلال العشر سنوات الاكتفاء الذاتي من القمح وأصبحت بعد ذلك من أكبر الدول المصدرة للقمح، وعلينا أن نعطي القوس لباريها فلدينا من الخبراء والأكاديميين الزراعيين ما يمكنهم تحقيق ذلك.. نحن بلد زراعي يقال عنه إنه سلة غذاء العالم العربي وفي ذات الوقت هناك فجوة وما زلنا نستورد!!.