قيل قديمًا تقدِّرون وتضحك الاقدار.. وحينما أخذ السودان استقلاله في عام 1956م جاء المستر انطوني مان (Antoniman) مراسل الصحيفة الإنجليزية (Dailymail) الذي ذهب للجنوب وطاف أرجاء السودان رجع إلى لندن وكتب في صحيفة «السودان أو حديث ضحك القدر»: والقصة الطريفة الواقعية والتي أرويها لكم في هذه الاستراحة هي قصة حصلت لي شخصيًا وهكذا كما قيل «تقدرون وتضحك الأقدار» كنت في 1941م أبلغ من العمر ثمانية أعوام وشقيقي إبراهيم عليه الرحمة أكبر مني بسنتين ولم تكن عندنا شهادة ميلاد فقد كنا في قرية البسلي نهر عطبرة لا توجد شفخانة تسجل المواليد ولا مدرسة وكان والدنا عمدة البلد وجاءه المستر (Undr) المستعمِر ومفتش مركز شندي الذي تخضع العمودية لإدارته.. وكان جناب المفتش يجلس في ديوان العمدة على العنقريب الكبير وجلسنا أنا وشقيقي إبراهيم نتفرج فيه حيث عنده برنطة وكدوس ينفخ دخانه في الهواء، وقال لوالدي هؤلاء أولادك وهل دخلوا مدرسة، قال له لم يدخلوا ولا توجد عندنا مدرسة بل هناك واحدة بمدينة الدامر ولم يدخلوها، وقال له المفتش سوف نأخذه ليتعلم، ووافق الوالد وقال له اكتب إبراهيم، وهو شقيقي الأكبر، وفي الصباح الباكر شدوا الرحال للدامر عن طريق المجرور (القري) وكانت الرحلة بالدواب حيث لا توجد عربات في ذلك الزمان وركب أخي إبراهيم رديفًا وانطلقوا فما كان مني إلا أن جريت خلفهم كداري ولحقت بهم في قرية قريبة من قريتنا هي السليم وكنت أود أن أذهب معي أخي لأشاهد البندر وأقرأ في المدرسة ولكن الوالد أمر أخي الأكبر عبدالرحيم أن يرجعني للقرية حتى لا ألحق بهم وظللت أبكي بصوت مرتفع وجاءت والدتي قائلة لا تبكِ يا الفالح بتلحق به إن شاء الله.. وكان الوالد واخي الشيخ «خفير العمدة» ومعهم أخي إبراهيم باتوا بقرية اسمها البيرة وفي الصباح الباكر أحضروا لهم الشاي.. وكان الشاي «سادة» على أن يلحق به فيما بعد شاي اللبن. ولكن أخي إبراهيم رفض الشاي السادة ورقد على الأرض حردان، وسأل الوالد ده مالو رقد؟ قالوا له ده ابى الشاي السادة ونحن رائحين نجيب شاي اللبن.. وطوالي الوالد قال لأخي الشيخ أرجعه وأحضر أخاه الحاج. فقام بإحضاري أنا كاتب هذه السطور، وقال له أهل المنزل يا عمدة ما ترجعوا والمدرسة الماشي ليها ما فيها لبن.. ولذلك قررت أن أرجع ويحضر بدله أخوه الأصغر وعاد أخي الشيخ يحمل خلفه أخي إبراهيم الذي رفض الشاي السادة وطلبوا مني أن أركب مع أخي الشيخ وقالت لي الوالدة عليها الرحمة ماقلت لك بتمشي؟ هكذا سيداتي سادتي لو شرب أخي إبراهيم الشاي السادة لكان هو الذي يدخل المدرسة ويكون عمدة وكاتب استراحات ونائب في البرلمان وهكذا رفضه للشاي السادة جعلني أنا بمدرسة الأولية عام 1942م وهكذ تقدرون تضحك الأقدار التي يجري بها القلم.. ورحم الله والدي الذي لعب دورًا في حياتي بإعادة إبراهيم أخي بسبب عدم شربه للشاي السادة ورحم الله شقيقي إبراهيم الذي عاد تربالاً في الساقية أمِّي، ما سطر قلم، ولكنه لعب دورًا في حياتنا بكرمه الفياض فقد كان يكرم الضيوف الوافدين في ديوان العمدة وقد اشتهر بكرمه في القرية، عليه الرحمة والرضوان، تلك أيام قد خلت وسطور قد كُتبت والحمد لله الذي أنقذني من ظلام الجهل إلى نور العلم والتحية لأساتذتي في ذلك التاريخ أذكر منهم الناظر محمد إبرهيم عبدالله «عكاريتك» والناظر فرح خيري والناظر إبراهيم كليب والأساتذة عبدالرحيم المغربي ومحمد بابكر وشيخ الصاوي وشيخ نائل وعوض عبد الحميد عليهم الرحمة، ودوام الصحة والعافية لأستاذي محمد الأمين الغبشاوي الذي يجلس الآن بالمنزل ولزملائي في ذلك العهد الميمون، ودمتم في حفظ الله ورعايته.