الناظر إلى حالة المخاض العسير الذي تشهده الحركة الإسلامية السودانية في الوقت الراهن، وإلى عملية الطلق الاصطناعي الذي وضعت تحت رحمته، وإلى حالة المد والجزر التي تأخذ بناصيتها وهي تستعد لعقد مؤتمرها العام الشهر المقبل، الناظر إلى كل ذلك بعين فاحصة تستوقفه ثلاث محطات أساسية: = الأولى: شعور القيادات التأريخية الأصيلة في الحركة بمرارة التهميش مع استمرار الإقصاء المتعمَّد من جانب بعض إخوانهم في الجهاز التنفيذي ممن اُصطلح على تسميتهم «السُّلطويين». = والثانية: حالة التجاذب الحاد والصراع المحتد ما بين الساعين إلى استمرار تذويب الحركة الإسلامية في حزب المؤتمر الوطني، والساعين إلى إعادة «المِقْوَدْ» إلى يد الحركة لتكون هي القائدة والموجهة للدولة والمجتمع والسلطة السياسية الفعلية العليا، ذات المرجعية الدينية. = والثالثة: النتائج المتوقعة لهذا الشعور المتراكم والذي بلغ ذروته ومنتهاه، ولهذا الصراع المحتد وهي نتائج قد تحمل في طيّاتها سيناريوهات خطيرة للغاية سيكون لها ما بعدها إذا استمرت شهوة الإقصاء والهيمنة من جانب فريق«السلطويين» الذي يضم عددًا من الوزراء والمسؤولين والدستوريين بالجهاز التنفيذي، من الذين يتراءون ل «المبعدين» أشبه بخليط مابين البراغماتية والتكنوغراط، نظرًا لبُعدهم عن مرجعية الحركة الإسلامية. أسئلة ليست بريئة وقبل الدخول إلي سبر أغوار المحطات الثلاث وتحليلها بشكل موضوعي، يتعين علينا طرح جملة من الأسئلة الجوهرية ذات الصلة بموضوع التحليل، وذلك على النحو التالي: أولاً شعور القيادات التاريخية بمحاولات الإبعاد والإقصاء المتعمَّد ووضعها على الرف، هل هو حقيقة تسندها المعطيات، أم أنه شعور وهمي؟ وما هي دوافع «السلطويين» وراء إبعاد شيوخ الحركة، و«دغمسة» مرجعيتها؟ وما هو حجم الخطر الذي يتهدد وجود «السلطويين» ومصالحهم في حال تمكَّنت الحركة من إعادة هيمنتها وسيطرتها على الدولة وجعلت الحزب رافدًا منها ليس إلا؟ وهل وراء خطوة إقصاء القيادات التاريخية والتخلي عن المرجعية بدرجة ما ثمة إيعاز أو ضغوط خارجية؟ وهل صحيح أن تسلق النفعيين والانتهازيين، والوصوليين إلى الحزب الذي أصبح مهيمنًا على الحركة والحكومة، أحد أسباب ثورة الإصلاح الحالية ومحاولات إعادة الأمور إلى نصابها؟ وهل استماتة «السلطويين» من أجل أن تبقى الأوضاع كما هي تمثل خط الدفاع النهائي عن مصالحهم التي تهددها عودة الحركة إلى قيادة الدولة والمجتمع بذات المرجعية الإسلامية التي ران عليها غبش الأجندات السياسية؟ وهل تسعى القيادات التاريخية من خلال ثورة التصحيح إلى تطهير الحركة من المفسدين الذين حامت حولهم كثير من تهم الفساد المالي والإداري والأخلاقي، وأصبحوا محسوبين عليها؟... هذه أسئلة ضرورية لتحديد اتجاهات الموضوع وتسهيل فهمه، وسنجيب عن الكثير منها بشيء من الموضوعية في سياق هذا التحليل، وربما نتجاهل الإجابة عن بعضها لأسباب موضوعية أيضًا. المحطة الأولى: الشعور بالإقصاء بعد قرار حل الحركة الإسلامية في مطلع تسعينيات القرن الماضي بإيعاز من الأمين العام للحركة آنذاك الدكتور حسن الترابي انزوت كثير من القيادات وتحولت الحركة إلى ديكور أو لافتة يحتمي بها المؤتمر الوطني حينما تتكاثر عليه سهام الأعداء بالخارج، ونبال الخصوم السياسيين بالداخل، وإلى «آلية» من آليات الاستنفارالعسكري والسياسي والأمني، في أوقات الشدة، ثم توضع بعناية على الرف إلى حين الحاجة إليها، أو هكذا تبدو الصورة في مخيلة الكثيرين من المنتسبين للحركة، كما تحولت الحركة في نظر البعض إلى جهاز حكومي لإنتاج قرارات عن طريق الشورى الصورية، يكون الغالب فيها الاحتماء بهياكل الديمقراطية والشورى دون الأخذ بمضامينها، واستمر هذا الحال بعد إقصاء الترابي بموجب قرارات الرابع من رمضان، ومن المفارقات أن الأسباب التي بررت قرار إبعاد الترابي عادت بقوة قبل اكتمال أربعة أشهر وعشرًا، وإذا كان قرار حل الحركة في التسعينات من بعض الزوايا يهدف إلى إبعاد شيوخ الحركة المنافسين للترابي، فإن هذا الهدف استمر لينهل من معينه الذين أطاحوا الترابي... هذه الملاحظات أعلاه والتي برزت بعد قرار حل الحركة وردت على ألسنة العديد من قيادات الحركة الإسلامية بشكل أو بآخر، أمثال حسن عثمان رزق، والبروفسور زكريا بشير إمام ونحوهما ممن عبَّروا عن ذلك الشعور بإقصاء الحركة وتحجيم دورها، وإصرار بعض الوزراء في الجهاز التنفيذي على إبعادها وإقصائها من الحكم، والعمل على تهميش قياداتها، والحكم بدون مرجعيتها الإسلامية، و«دغمستها» حتى أن أحد أبرز قيادات الحركة قال على الملأ إن أخطر سلبيات الإنقاذ عدم الحكم بالشريعة الإسلامية بصورة صحيحة... وخلاصة القول في هذه المحطة، أن شعور القيادات التأريخية بالإقصاء ودخول البعض في عباءة الحركة وقت الحاجة على نحو سياسي براغماتي، وخلعها تحت وطأة الضغوط أحيانًا، والحكم باسمها صوريًا، واستغلالها من بعض الانتهازيين، والنفعيين، يظل من بعض الجوانب شعورًا له ما يبرره بدرجات متفاوتة... المحطة الثانية: الصراع بين تيارين لم تعد سرًا تلك الحالة من التجاذب، والصراع بين تيارين داخل الحركة والحزب أحدهما يصر على استمرار تذويب الحركة في الحزب، على أن تصبح الحركة تابعة للأخير، وإحدى مرجعياته عند الحاجة والضرورة حتى تذوَّب وتنصهر تمامًا، بينما يسعى التيار الآخر إلى إرجاع الحركة الإسلامية إلى ما كانت عليه قبل قرار الحل، وبالنظر إلى كثير من المعطيات المتاحة في الوقت الراهن تبرز هناك أسباب ودوافع ومبررات موضوعية لهذا الصراع، فالتيار الذي يعمل على تذويب الحركة لا بد له من أهداف يسعى إلى تحقيقها من خلال هذه المساعي والتحركات، وأول ما يتبادر إلى الذهن وفقًا لبعض المعطيات، أن بعض الداعين إلى تذويب الحركة ربما تهدد عودة الحركة إلى دائرة الفعل السياسي ومراكز اتخاذ القرار مصالحهم بشكل مباشر، خاصة أن بعض هؤلاء إما حامت حولهم شبهات فساد، أو لهم مصالح مباشرة مع مراكز القوى القائمة على رعاية المصالح الخاصة، وأن هيمنة الحركة الإسلامية بصورة فعلية، تعني بالضرورة إزاحة المناوئين لهيمنتها، والساعين لإقصائها وأن تمدد نفوذها يعني بالضرورة تقليص وتحجيم نفوذ «السلطويين» الذين أمعنوا في المزاوجة بين السلطة والمال...إذن وجود تيارين متصارعين على البقاء والهيمنة، هو ليس بالمزايدة السياسية، وليس هو مجرد تحليل أوتكهنات، بل واقع كشفت عنه المعطيات المتواترة، وعزَّزته الدلالات وقرائن الأحوال وأقر به الإسلاميون أنفسهم، ولعلَّ ساحة المعركة الآن باتت مهيأة تمامًا أكثر من أي وقت مضى لحسم الصراع حول مرجعية الحكم «المدغمسة» ولتطهير صفوف الحركة من الفاسدين أخلاقيًا، وماليًا والانتهازيين، والمتسلقين، وهو أمر عسير ومهمة صعبة للغاية، لأسباب لا تخفى على أحد، لهذا يتوقع أكثر من مراقب سياسي أن تشهد ساحة المؤتمر سجالاً ساخنًا ومعركة حقيقية، ستكون نتائجها إما كارثية على الحركة والحكومة والحزب، أوخطوة في الطريق الصحيح.. المحطة الثالثة: نتائج الصدام القادم أما النتائج المتوقعة لهذا الشعور المتراكم بالتهميش والإقصاء لدى القيادات التاريخية للحركة والذي بلغ ذروته ومنتهاه، قد تحمل في طيّاتها سيناريوهات خطيرة للغاية سيكون لها ما بعدها إذا استمرت شهوة الإقصاء والهيمنة من جانب «السلطويين»، هذا الشعور هو الذي يغذي الصراع القادم، ويعبئ مشاعر الكثيرين من الذين يشعرون بالتهميش ومرارة الإقصاء، وهو شعور أيضًا اختلط بمشاعر الإحباط لدى الكثيرين، خاصة الشباب المجاهدين الذين تساقط أمامهم المثال إبان النزاع السلطوي بين القصر والمنشية والذي لا تزال آثار صدمته القوية يعيشها البعض، مما يعني أن النتائج ستكون إما طامة جديدة في وجه الحركة وحزبها أو القبول بواقع ثوري داخلي جديد أشبه بثورات الربيع العربي، لكن بمحدودية لا تتجاوز الثالوث «الحزب والحركة والحكومة». السيناريوهات المحتمَلة وطبقًا لكثير من المؤشرات والمعطيات نتوقع حدوث أحد ثلاثة سيناريوهات إما انقسام مدوٍّ في وسط الإسلاميين، وهذا إذا ما حدث فسيعجل بنهاية حكم المؤتمر الوطني في البلاد، وأما السيناريو الثاني فهو عودة الحركة الإسلامية إلى سابق عهدها قبل الحل كموجهة وقائدة وليست تابعة للحزب مثلها ومثل أحزاب أُريد لها أن تكون «كومبارس» أو ديكور أو أي جسم هلامي ليس له تأثير وفاعلية في دائرة الفعل السياسي، ومراكز صناعة القرار، وفي هذه الحالة ستحدث ثورة تصحيحية محدودة ربما تتدرج في الإصلاح أو تحن إلى عهد «الدغمسة»... وأما السيناريو الثالث فهو أن تحدث عملية استقطاب وتخدير وتسكين لآلام المخاض التي تعيشها الحركة وقياداتها التاريخية، وذلك تحت مبررات الاستهداف الخارجي، والتحديات الداخلية، والمؤامرات الصهيونية الإمبريالية، والتآمر الإسرائيلي الأمريكي، وربما تستكين قيادات التيار الثوري الساعي إلى إعادة هيمنة الحركة وترضخ لهذه المبررات، خاصة وأن هذه الفئة والتي قوامها الشيوخ الكبار والشباب حديثو التجارب، شديدة العاطفة ربما تقتنع بسهولة، ويسر بتسوية النزاع والخلافات خارج المؤتمر، وفي هذه الحالة ستكون وقائعه ومخرجاته وتوصياته كسابقاته... هذه محاولة فقط لقراءة الراهن وفقًا لمعطيات محددة، وما يمكن أن ينجم عنه وليست هي الحقيقة المجردة، غير أن الأيام وحدها كفيلة بإظهار الحقائق المجردة، فهي حبلى يلدن كل جديد!!