يشهد شهر أكتوبر من كل عام منظومة احتفالات أممية لمناسبات تتعلق في مجملها بالمجتمع وتنميته، فقد شهد منتصف الشهر الاحتفال الأممي باليوم العالمي للمرأة الريفية وتلاه يوم الأغذية العالمي ثم احتفالية اليوم العالمي للقضاء على الفقر، وتمثل هذه الثلاثية في كلياتها اهتماماً عالمياً ودولياً بالقضايا الثلاث موضع الاحتفاليات، وذلك لكونها من أكثر المؤثرات التي تنعكس سلباً أوإيجاباً على اقتصاديات الدول وعليها يعتمد التصنيف الاقتصادي لأي دولة عالمياً. إن تحقيق التنمية المستدامة التي تربط الحاضر بالمستقبل وتمهد لاستقرار اقتصادي واجتماعي على المديين القريب والبعيد هي بالقطع منوطة بهذه القضايا المتلازمة والمترابطة فيما بينها تلازماً وثيقاً وترابطاً لا فكاك منه باعتبار أنها تمثل حلقات تتقاطع فيما بينها لتكون سلسلة نظيمة في عقد الارتقاء بالمجتمع وتنميته. وتعتبر المرأة هي العامل الرئيس الذي يربط كل حلقات السلسلة الاقتصادية على كل المستويات، فهي محرك رئيس في عملية التنمية الزراعية والصناعية سواءً في الريف أو في المدينة، وهي من بعد أصبحت في الآونة الأخيرة يقع عليها العبء الأعظم في الارتقاء بوضع الأسرة معيشياً عبر شتى الوسائل مساهمة بذلك في رفع المستوى الاقتصادي للأسرة السودانية مما انعكس إيجاباً على مجمل الوضع الاقتصادي في البلاد وهو ما يساهم كثيرًا في انحراف مؤشر الفقر إلى الأسفل ويساعد على تحقيق الأمن الغذائي وهي المطلوبات التي تقود للاستقرار الاقتصادي لأي دولة. وهذا الدور المتعاظم للمرأة ظلت المرأة السودانية تقوم به لعشرات السنين مما جعل من مصطلح «تأنيث الفقر» الذي أطلقته بعض دول الجوار العربي وصفاً لأوضاع المرأة بها، جعلته المرأة السودانية وصفاً غير مطابق أبدًا لحالها. فالمصطلح تعني دلالاته قلة الفرص التي تعطى للمرأة في مجالات التعليم والعمل وانعدام حقوقها في التملُّك وممارسة النشاطات الاقتصادية كما تتيح لها قدراتها، وهي حقيقة ظاهرة تكاد تنتظم العديد من دول العالم ولا يستثنى منها الكثير من الدول العربية التي يحتدم الجدل في أكثرها الآن وفي القرن الحادي والعشرين حول إمكانية حصولها على حقوق أساسية نالتها المرأة السودانية وبجدارة منذ ستينيات القرن الماضي بل ومن قبله كممارسة رشيدة استحقت على إثرها أن تضمن كحقوق في القوانين والدساتير منذ ذلك التاريخ. غير أنه وبرغم ذلك فإن هناك العديد من الإشكالات التي تواجهها المرأة وخاصة الريفية في السودان والتي كانت وما تزال تؤثر تأثيرًا سلبياً على عملية تحقيق التنمية المستدامة ناهيك عن تحقيق ارتقاء في وضع المرأة نفسها، وهي إشكالات تتعلق في مجملها بعدم حصولها على القدر الوافي من التعليم لأسباب كثيرة متداخلة منها بعد مراكز التعليم عن مناطق السكن بالإضافة إلى انقطاع الفتيات الصغيرات عن التعليم بسبب الزواج مما يستدعي رفع الوعي بقيمة العلم لدى المجتمع مع عدم التصادم مع عادات هذا المجتمع وأعرافه حتى لا يتسبب ذلك في شروخ اجتماعية يزيد ضررها كثيرًا عن المقصد الأساسي من التعليم وهو خطأ ظلت كل حملات التوعية الريفية تقع فيه ربما بغير قصد، مما جعل المناطق الريفية تواجه معدلات أمية تصل إلى الضعف عما هي عليه في الحضر وهي أمية تشمل النساء والرجال باعتبار أن المرأة هي حقاً وفعلاً المدرسة الأولى واللبنة الأساسية للمجتمع والتي تؤثر على محيطها وتتأثر به في عمل دائري متصل. كما تواجه المرأة الريفية نقصاً حادًا في التوعية والرعاية الصحية وخاصة للأمهات والحوامل مما يرفع كثيرًا من نسبة وفيات الأمهات وزيادة معدلات الإجهاض الطبيعي الناتج عن الكثير من الأسباب التي ترجع في المقام الأول لعدم وجود الرعاية الصحية الأولية في المناطق الريفية وإن وجدت فهي في غير متناول اليد لأنها تبعد كثيرًا عن مناطق الرعي والزراعة التي تقطنها المرأة. إن المرأة الريفية يقع على عاتقها الكثير من المطلوبات في واقع حياتها اليومي، فهي التي تشارك في الزراعة تمثل «79%» من القوى العاملة في المشاريع الزراعية ورعاية الماشية وهي من بعد تعمل على توفير الغذاء والماء لأسرتها في ظل ظروف لا تكون دائماً مواتية وسهلة كما وتقوم بالكثير من الأنشطة اليدوية التقليدية وغيرها من أجل زيادة وتنويع مصادر الدخل لأسرتها هذا غير دورها الطبيعي والطليعي في رعاية أسرتها وأطفالها، وكل ذلك في أداء عظيم وتفانٍ لا حدود له ظلت المرأة السودانية تقوم به في كل بوادي بلادي شرقاً وغرباً شمالاً وجنوباً، وهي لذلك تستحق أن يخصص لها يوم للاحتفال بإنجازاتها والعمل على إعادة توجيه كل الطاقات من أجل دعمها وتهيئة الظروف الملائمة لها من أجل المزيد من المساهمات في دفع عجلة التنمية التي تفتقد إلى الكثير الآن خاصة في ظل العودة إلى الاعتماد على القطاعات التقليدية زراعية وصناعية من أجل خلق واقع مغاير بعد أن طالت يد الإهمال هذه القطاعات لسنوات طوال. إن المطلوب كثيراً في إطار بناء قدرات وتطوير المرأة الريفية ولا تكفي مشاريع وزارة الرعاية الاجتماعية التي جعلت من المشروع القومي لتنمية المرأة الريفية أحد محاور الخطة الخمسية الأخيرة لا يكفي ذلك وحده للنهوض بها فلا بد من تضافر المجتمع ككل بكل منظماته الطوعية والنسوية إضافة إلى رؤوس الأموال الكريمة من أجل أن يصاغ برنامج متكامل يسهم في إتاحة فرص التأهيل والتدريب للمرأة الريفية وزيادة قدراتها ومهاراتها. كما ولابد من إجراء الترتيبات سواء من قبل الدولة أو الكيانات المجتمعية، أياً كانت تسمياتها أو صفتها من أجل قيام أسواق ريفية موسمية تعالج مشكلة تسويق منتجات مشاريع التمويل الأصغر التي استهدفت الكثير من المجتمعات الريفية كمبادرة من وزارة الرعاية والضمان الاجتماعي حيث تعتبر مشكلة التسويق إحدى الإشكاليات الأساسية في المشروع ومعوقاً أساسياً له، بل إن قيام مثل هذه الأسواق سيكون بمثابة احتفاليات اجتماعية ليس فقط لعرض منتجات هذه المجتمعات الريفية وتسويقها، بل هي أيضاً ستكون بمثابة تعريف بهذه المجتمعات وعامل انفتاح لها على بعضها البعض بما يغذي البنية الاجتماعية في السودان ويفتح الباب لتبادل الخبرات والمعارف. ثم هو من بعد ذلك ومن قبله سيعمل علي دعم وتطوير الأنشطة الاقتصادية لهذه المجتمعات. وهي تجربة قد سبق بها الشرق في مهرجانات التسوق والسياحة التي بدأ تنظيمها مؤخرًا لكنها في الريف تحتاج لأكثر من ذلك بكثير فهي المناط بها المساهمة في تطوير هذه المجتمعات بأكثر مما يطلب منها التعريف بها. إن المرأة الريفية في السودان هي دعامة التنمية الأولى لكنها بحاجة للكثير مما ذكرناه آنفاً وبحاجة أكثر لتغيير الكثير من العادات التي ساهمت في إعاقتها وتأخير تقدمها وهي في حاجة إلى زيادة الوعي بحقوقها ليس من أجلها فقط ولكن من أجل مجتمع كامل تظل هي محور وجوده وسر كينونته قديماً وحديثاً.