المؤلف الإسباني المشهور سيرفانتس كان من أقدر الكُتّاب الأوروبيين الذين وصفوا الحالة النفسيّة التي ربما تعتري بعضاً ممن يعتقدون أنهم ضد العالم، وأن كل العالم يقف ضدهم، وكان من بين هؤلاء الشخصية المعروفة باسم دُونْكيْشُوت. ودُونْكيْشُوت كان يُحارب طواحين الهواء ويقود عليها حملة شعواء وشرسة، حيث كان في اعتقاده أنه يقوم برد الصاع صاعين للأعداء الذين يتوهّم أنهم موجودون ويترصدونه.. وكان دُونْكيْشُوت يتوهّم أنه يركب حصاناً أصيلاً ويحمل سيفاً بتّاراً ويتمنطّق بالدروع والخُوذات، بينما كان في الحقيقة يتمتطى حماراً أعرج ويلبس أسمالاً بالية ويحمل في يده خشبة أكلت دودة الأرض معظم أطرافها.. وكان الرجل يُغير على طواحين الهواء رجاء أن يجد بداخلها الأعداء.. وعندما لا يعثر عليهم يقوم بتسديد الطعنات والضربات للطواحين نفسها. وقصة دُونْكيْشُوت «بتاع الخواجات» تُذكرنا بالطُرفة العربية الواردة عن «أبي حُييّة» والذي كان مشهوراً بالُجبن والادعاء ومعروفاً بالوهم على شاكلة دُونْكيْشُوت.. وقد قيل إن نساء الحي في ليلة من الليالي المظلمة سمعن أصوات القدور تتساقط في أحد المنازل مما أحدث كثيراً من الضوضاء والجلبة «الكَرْكَبة» داخل الغرف.. واعتقدت النساء أن هذه الأصوات كانت بسبب أحد اللصوص.. ولهذا فقد استنجدت النساء بأبي حُييّة الذي حضر وهو يحملُ سيفه وصعد على أحد الأبراج العالية وهو يرتعد من الخوف وصار يخطب بالصوت العالي ويصيح متوجّهاً نحو اللص المتوهَّم ويتوعَّد ويهدِّد قائلاً: «أيها اللص المغرور المجترئ علينا لقد اخترت لنفسك سوء العاقبة وليس لك عندنا إلا السيف المصقول وضربه المشهود، وعليك أن تخرج ونعفو عنك وإلا دخلنا عليك وأذقناك من العذاب والعقاب، والله إن لم تخرج دعوت إليك أخوالي من بني فلان ومن بني فلان، وأقاربي من بني علان وإنهم لفاعلون بك كذا وكذا». وبينما هو يصيح ويكورك ويبرطع ويتوعد ويرغي ويزبد خرج من المنزل كلب كان هو الذي يُحرّك الأواني و«الحلل» في الغرفة مما أحدث الأصوات المزعجة.. التي خافت منها النساء حتى استنجدن بأبي حُييّة.. وأبو حييّة عندما شاهد الكلب قال: «أيها اللص الحمد لله الذي مسخك كلباً وكفانا حرباً!!» وصار يتبختر بين النساء ويتهادى بافتخار.. وأمثال دُونْكيْشُوت بتاع الخواجات وأبو حييّة بتاع العرب يوجد لدينا منه في بلادنا الكثيرون.. وقد أفرزت الحريات أنماطاً كثيرة من مثل هؤلاء.. و«الفسحة» و«الكُوّة» والمساحة التي أتاحتها الإنقاذ للمُعارضة جعلت البعض يعتقد أنه يركب حصاناً بينما هو يمتطي الحمار المكسور الرجل والظهر ضد الوطن.. ويعتقد أنه يحمل سيفاً بينما هو في الحقيقة يحمل خشبة ويعتقد أنه يلبس الدروع والحديد بينما الرجل «قاعد ميطي في السهلة» .. والبعض أخذته نشوة الحرية الممنوحة وأسكرته فصار يكورك مثل أبي حُييّة قائلاً: أيها الحكومة المجترئة علينا إن لم تُشاركينا في الحكم ولم تشاورينا في الأمر فإني سوف أدعو لك أهلي وأقاربي من بني فلان وعلان، وسوف أشكوك للأمم المتحدة والبنك الدولي وحقوق الإنسان ومحكمة العدل الدولية والسي آي إيه وتظل الحكومة ترقبه وهي تحمل الجزرة والعصا.. وتمد له الجزرة فيدعي أنها أصغر من «مقاسه» وترفع عليه العصا «فيلبد» ويسكن.. ثم ينام ليصحو مرة أخرى مطالباً مرة ثانية بأن يتركوه يتذوق طعم الجزرة ولو لبعض الوقت. { كسرة: إذا كانت بعض الحرية السياسية قد أفرزت جماعة دون كيشوت فإن الحريات الأربع التي سوف تُمنح للجنوبيين ولعملاء وجنود الحركة الشعبية سوف تعود علينا بالثبور وعظائم الأمور وتجعل الجواسيس والخوازيق يتجولون وسط المدن والقرى ويجهزون المسرح لأكبر انفجار يصيب «المندكورو» في مقتل بعد أن قامت اسرائيل بالواجب.. وإذا زادت الحريات ووصلت إلى أربعين حرية حسب طلب أحد السادة المفاوضين فإن الرماد كال حماد وعلى كل «زول» أن يتحسس موقع أقدامه وعلى كل «مندكورو» أن يبحث عن منشأ أجداده في شعاب الجزيرة العربية وصحاري اليمن وأصقاع الشام.. وأبناء عمومتهم من آل العباس أو آل عنتر بن شداد أو الشنفرى وتأبط شرّاً وأبو «الأسود الدؤلي» إن لم يكن أبو الأسود من خارج الملة «العربية أو من آل الأخضر الإبراهيمي.. أو الأخضر الكيموني.