بعد حملة التسجيل الماراثونية للانتخابات، وهي واحدة من أغرب الحملات على هذا الصعيد، يبدو أننا سنكون بإزاء معركة تالية ستبدأ على الفور تتمثل في رفع نسبة المشاركة في الانتخابات بكل الوسائل الممكنة «لن نتحدث هنا عن وسائل غير مشروعة»، الأمر الذي سيكرر ما تابعناه من آليات في الانتخابات الماضية مثل دفع عدد كبير من المرشحين لخوض الانتخابات وإيهامهم بإمكانية الفوز، بخاصة في المدن الكبرى على أمل أن يدفع كل واحد منهم قطاعًا من أقاربه ومعارفه إلى التصويت، فضلاً عن استخدام الفتاوى ودفع مرشحين «مشايخ» لخوض الانتخابات، إلى غير ذلك من الوسائل المبتكرة. والحال أنه لن يكون من العسير على سياسة الحشد الرسمية واسعة النطاق أن تصل بنسبة التصويت حدود الخمسين في المئة «سيقال طبعًا إنها طبيعية وضمن المعايير الدولية»، لاسيما أن معظم المناطق العشائرية ستذهب نحو الصناديق بصرف النظر عن قناعة الناس الذين يصعب عليهم التمرد على الأبعاد الاجتماعية في هكذا مناسبات. ورغم محدودية الحضور الشعبي للأحزاب القومية واليسارية، إلا أن قدرتها على إحداث الجَلَبَة السياسية ستؤدي إلى منح الحملة الانتخابية بعض الفاعلية في حال حسم قرارها بالمشاركة، رغم أن مزيدًا من التدقيق في المشهد لربما دفع إلى القول إن مشاركتها ستزيد في تهميشها حتى لو تمكنت عبر بعض مرشحيها «ومنهم عشائريون مع إمكانية دعمهم رسميًا من دخول البرلمان»، لاسيما أن مشاركتها تتناقض كليًا مع السقف العالي الذي كانت تتبناه فيما يتعلق بمطالب الإصلاح. بل إن بالإمكان القول إن كثيرًا من كوادر تلك القوى سيشعرون بكثير من التناقض حيال قرار المشاركة، ولن يجدوا في تبريره نفسيًا سوى الموقف الحزبي المتعلق بالمناكفة مع «الإخوان»، وهي المناكفة التي ازدادت وضوحًا إثر الثورة السورية، وربما بسبب عموم تداعيات الربيع العربي. ولكن ما هي النتيجة المتوقعة لهذا الحشد المستمر منذ التسجيل وحتى تضع المعركة أوزارها بدخول حشد كبير من الناس «150 نائبا» إلى مبنى البرلمان سيجعل من الصعب على الناس تذكر أسمائهم، وإن عُرفوا في مناطقهم؟! لا جديد يذكر، فالبرلمان هو ذاته القديم «تقريبا»، والذي تركزت شعبيته في أخبار «الهوشات»، لكن قدرًا معتبرًا من الشطارة السياسية قد يفضي إلى إنتاج قوائم حزبية أو كتل برلمانية بتعبير أدق، قد تكون مدخلاً لإنتاج حكومة برلمانية كما هي الوعود، لكن النتيجة النهائية لن تختلف كثيرًا من حيث تفاصيل السياسة داخليًا وخارجيًا، ومن حيث علاقة الحكومة بالبرلمان وآليات اتخاذ القرار. ضمن هذه المعادلة ما الذي كان بوسع الإخوان أن يحققوا بمشاركتهم غير إكمال الديكور الديمقراطي؟! الجواب هو أن موقف الإخوان الذي كان يلوِّح بالمقاطعة في حال الإبقاء على قانون الصوت الواحد المجزوء، والأهم عموم الحراك الإصلاحي هو الذي أفضى إلى تغييرات محدودة في قانون الانتخاب «القائمة الوطنية»، وهو الذي أفضى إلى الحديث عن الحكومة البرلمانية، وقد تكون له بعض التأثيرات أيضًا على عموم السياسات المحلية والخارجية. والنتيجة أن مقاطعة الإخوان ستكون خيرًا للمسار الإصلاحي وخيرًا للوطن والمواطن حتى دون الوصول إلى الأهداف الكبيرة للمسار الإصلاحي برمته، فكيف إذا تطور الموقف لاحقًا ليضغط باتجاه إصلاحات أكثر جدية وأكثر تعبيرًا عن الحراك الشعبي الذي امتد لعامين كاملين دون كلل ولا ملل؟! الإخوان لن يخسروا شيئًا بمقاطعتهم، بل سيربحون المصداقية، بينما قد يربح المسار الإصلاحي أيضًا بعض الإيجابية التدريجية، إذ سيكون هاجسه التطور بأي شكل من أجل إثبات عبثية المقاطعة والمقاطعين، ووحدهم الذي رفعوا الشعارات الكبيرة ثم نكصوا هم من سيخسرون حتى لو ربحوا مقعدًا برلمانيًا أو بضعة مقاعد. وفي حين يجري التعويل على تعثر الربيع العربي في محطته السورية والمحطات الأخرى، فإن الثابت أن هذه المرحلة من تاريخ الأمة ليست عابرة بحال، وهي لن ترتبط بتعثر هنا أو هناك، بقدر ما تعبِّر عن حقيقة أن هذه الشعوب لم تعد في وارد القبول بحكمها وفق ذات الآليات القديمة بأي حال.