إن ماليزيا وهي شبه جزيرة تقع في جنوب شرق آسيا أضحت مارداً اقتصادياً ورمزاً عالمياً وكما ذكرت في الحلقة السابقة فإنالدكتور مهاتير محمد رئيس وزرائها الأسبق ورائد نهضتها قد أولى التعليم اهتماماً كبيراً منذ أن كان وزيراً للتربية والتعليم وعند اعتلائه عن جداره واستحقاق سدة الرئاسة خصص ربع الميزانية العامة للتعليم ولذلك فإن نهضة ماليزيا تستند على قاعدة علمية وتقنية صلبة وبفضل القيادة الرشيدة الجادة أضحى اقتصادها مزدهراً ومعدلات نموه مرتفعة وقوامه ثلاث ركائز رئيسة هي عائدات الصناعة وقطاع الخدمات والزراعة مع استقطاب المستثمرين من الخارج وقد أودعوا أموالهم واستثمروها هناك لاطمئنانهم وثقتهم في استقرار الأوضاع الاقتصادية والسياسية بماليزيا التي اشتهرت على سبيل المثال لا الحصر بصناعة الزيوت والمطاط وصناعة معدات الإنارة والأدوات الكهربائية ومعدات النفط والصناعات النفطية وتكرير النفط والمعدات الزراعية وصناعة العربات... الخ مع اهتمامهم بالتعدين اهتماماً كبيراً «الحديد والألمونيوم». «والجدير بالذكر إن الميزانية السنوية العامة لماليزيا تعادل ميزانية السودان السنوية أكثر من خمس مرات أي أن ميزانية عام واحد في ماليزيا تعادل ميزانيات خمسة أعوام في السودان». وأن السودان به كل مقومات النهضة من أراضٍ زراعية شاسعة واسعة صالحة للزراعة مع توفر مياه الأنهار والمياه الجوفية ومياه الأمطار مع تباين مناخاته التي تؤدي لإنتاج تركيبة محصولية متنوعة في العروتين الصيفية والشتوية مع وجود الغابات وتوفر الثروة السمكية والحيوانية والمعدنية والنفط .... الخ وأن محاولة الدولة الوليدة التغوُّل على حدوده بتحريض ودعم من القوى الأجنبية مرده الطمع في ثرواته المختزنة من نفط ويورانيوم ونحاس...الخ وقد نهضت اليابان وماليزيا على سبيل المثال للجدية التي اتسمت بها هاتان الدولتان اللتان لم يهدر الوقت فيهما في الثرثرة الفارغة والهتافات ورفع الشعارات ودغدغة العواطف، والمؤكد أن السودان يمتلك كنوزاً وثروات كامنة أكثر منهما ولو نهج نهجهما في الجدية ووضوح الرؤية لارتقى مكاناً علياً ولما ظل يخبط خبط عشواء بسبب تقاطع الأجندات والصراعات وتضارب المصالح. وكما ذكرت آنفاً فإن نهضة ماليزيا ارتكزت على أرضية علمية وتقنية صلبة وأن السودان بحاجة لاهتمام أكثر بالتعليم من حيث الكم والنوع ونأمل أن نشهد اليوم الذي يعلن فيه انتهاء الأمية الأبجدية تماماً ولكن المؤكد أن السودان يعجُّ بأعداد ضخمة من العلماء والخبراء في ضروب العلم والمعرفة في شتى المجالات ومختلف التخصصات وقد نالوا تأهيلاً رفيعاً في الداخل والخارج ويعج السودان كذلك بالفنيين والتقنيين والصنايعية والعمال المهرة في مختلف المجالات، وقد ساهم أولئك الخبراء والعلماء وهؤلاء الفنيون والعمال المهرة في نهضة كثير من البلاد العربية والمنظمات الدولية وقد ماثل كثير من الأطباء والمهندسون والعلماء السودانيون غيرهم في دول العالم الأول بل تفوق بعضهم عليهم أحياناً وقد اضطرتهم جميعاً محاولة تحسين أوضاعهم المعيشية للهجرة ولو تحسنت الظروف هنا وعادت تلك السواعد القوية والعقول النيرة الخيرة المهاجرة للوطن لساهموا مساهمة فعالة في نهضته والسمو به للذرى الشامخات.. ويعج الوطن أيضاً بالمقيمين به من حملة ذات المؤهلات ولو هيئت لهم الظروف الأفضل والبيئة الصالحة للإنتاج لقدموا الكثير المفيد وساهموا في نهضة وطنهم ولكن من المؤسف أن كثيراً من هذه الطاقات معطلة ويفرض على أهل الشأن والتخصص أحياناً من لا خبرة له به ويريد أن يتعامل معهم كأنهم تلاميذ عليهم الطاعة والتنفيذ، والمهم أن الموارد البشرية لو أحسن استغلالها وتوظيفها التوظيف الأمثل لحدثت مساهمة فعالة في نهضة الوطن العزيز وأن الدليل على تجميد القدرات أن عشرات الآلاف من خريجي كليات الزراعة ظلوا وعلى مدى سنوات طويلة لا يجدون وظائف، وكان الأفضل والأمثل أن تتاح لهم المعينات الضرورية ويمنحوا أراضي زراعية ليساهموا في الإنتاج والوفرة، ولكن شيئاً من ذلك لم يتحقق ولم يتح هذا إلا لقلة ضئيلة منهم دون تحفيز يذكر وآثر بعضهم أن يعملوا في أعمال شريفة بعيدة عن تخصصاتهم مثل الحلاقة وبيع الصحف «كسرِّيحة» متجولين أو «فرّيشة» يفرشون البضائع في الطرقات لقاء نسبة يتقاضونها من عائد الأرباح وآثر الكثيرون منهم أن يعملوا كماسرة أو عمال يوميات، وخلاصة القول إن السودان لا تنقصه الكوادر القادرة على العطاء في شتى المجالات ولكن ينقصه استثمار الموارد البشرية الاستثمار الأمثل. وأن السودان مؤهل ليكفي حاجته من منتجاته الزراعية بشقيها النباتي والحيواني ومن صناعاته التحويلية ولعهد قريب كان القطن أو الذهب الأبيض هو عماد اقتصاد السودان ولكنه هوى من عليائه وسقط من ذروته العالية التي كان يرتقيها للسفح الأدنى وكذلك ترنح الصمغ العربي الذي كان يتميز به السودان وتضعضعت الحبوب الزيتية وأصبحت شركة الحبوب الزيتية السودانية من آثار الماضي وحكاياته القديمة. وما حدث للمشاريع المروية وعلى رأسها مشروع الجزيرة وامتداد المناقل شيخ المشاريع الزراعية المروية في إفريقيا ماثل أمام الجميع والحال يغني عن السؤال في كافة المشاريع. وما ألمَّ بالقطاع المطري من تدهور لا يحتاج إلى شرح وتوضيح وبدلاً من أن يتقدم القطاع الزراعي بشقيه النباتي والحيواني للأمام تقهقر للخلف ومع ذلك إذا ترك بعض المسؤولين المغالطات وكثرة إيجاد المبررات واعترفوا بالواقع فإن في هذا فضيلة تحسب لهم وكما يقولون «إذا كان العود موجود فاللحم بجود» وإن كل مقومات النهضة الزراعية متوفرة إذا فتحت صفحة جديدة على أسس قويمة وأولى المعالجات ينبغي أن تبدأ بإزالة الثنائية والإزدواجية إذ توجد أمانة عامة وهيكل للنهضة الزراعية وتوجد بجانبها وزارة زراعة اتحادية مع وجود وزارة للزراعة في كل ولايات السودان فكيف يستقيم هذا الأمر؟ «ما زال هناك تساؤل مطروح في عدد من الولايات عن أموال ما كان يعرف سابقاً بالنفرة الزراعية وأين صرفت تلك الأموال؟! وقد أضيفت لوزير الزراعة صفة رسمية أخرى وأصبح وزيراً للزراعة والري ويوجد بجانبه وزير مسؤول عن الموارد المائية والسدود أي أصبح للمياه وزيران والدليل على هذه الثنائية أن السيد المدير العام لمشروع الجزيرة صرح مؤخراً بأنهم طلبوا في مرحلة معينة أثناء العروة الصيفية كمية محددة من المياه ولكن القائمين على الأمر لم يمنحوهم ما طلبوه بحجة أنهم حولوا هذه الكمية المطلوبة لسد مروي وبالطبع أن مروي تستحق والجزيرة تستحق، ولكن العبرة في تضارب الاختصاصات وتداخلها بين الوزارة المسؤولة عن الري من جهة والوزارة المسؤولة عن الموارد المائية من جهة أخرى.. وهناك قضايا كثيرة تتعلق بالعمل الميداني في الغيط وضعفه وتتعلق بالتمويل والمدخلات الزراعية والتصدير والتسويق والثروة الحيوانية والصناعات التحويلية وإن مقومات النهضة متوفرة إذا قامت على أسس جديدة وقوائم ثابتة ولكن لم تدق الأجراس؟!