جزى الله الأربعائية خيرًا، فقد عودتنا على تفجير الطاقات الإبداعية وعدم الركون إلى القوالب الجاهزة أو المقولات المكررة، ومنحتنا الجرأة على الاقتحام والإدلاء بآرائنا الخاصة ومرئباتنا المستندة إلى معايشة وقراءة متعمقة في تراثنا، ولأن خليل فرح عاش في نفس البيئة التي جئنا منها، وتشرب نفس العادات والتقاليد والمفاهيم التي تربينا عليها، فإن معرفتنا لتلك الموروثات المشتركة قد تضيء جانبًا من رمزية الخليل، وقد تشرح ما غمض من إشاراته الذكية، في هذه المحاولة سأقف عند بيتين لخليل فرح شرحهما النقاد بصور مختلفة، الأول هو قوله (يا جميل يا نور الشقايق)، وتوطئة للحديث عن هذا البيت فقد أثارني تلفزيون السودان الذي أفرد في أحد برامجه الفنية حيزًا من الوقت في ساعة من ساعات الذروة لتقديم فيلم وثائقي عن (خليل فرح)، غير أن الفيلم لم يرق إلى قامة الخليل، حيث كان ينبغي أن يتم تصويره في حلفا وهي المكان الأقرب لموضع ولادته في «دبروسا» القابعة حاليًا تحت الماء، أو في جزيرة صاي موطنه الأصلي أو قرية بلال اكي (عزة ما نسيت جنة بلال) أو مقاصر موطنه الثاني ومدرسة دنقلا الابتدائية التي درس فيها الخليل (طبعاً تم تهديمها) كما كان بالإمكان تصوير المكان أو المبنى البديل.. وكذلك منزلهم السابق في الخرطوم بالقرب من نادي العمال (ولست أدري إن كان نادي العمال ما يزال في موقعه هناك أم لا) وقد حدثني أحد الأصدقاء أن النادي تم هدمه وأقيم فندق فخم في مكانه.. أرجو أن يكون مصدر صديقي غير صحيح.. ما فعله الفيلم الوثائقي هو أنه صور الفنان الرائع الكابلي في الأماكن التي ذكرها خليل (الخور والمزالق) تجوّل كابلي في تلك الأماكن وتغنى برائعة الخليل (نور الشقايق) أطال الله عمرك يا كابلي وليتهم تركوك في الاستديو لتتحدث عن (الخليل) وأنا أعرف أنك تكن للخليل الكثير من الود والإعجاب، وقد استمعت إليك كثيراً وأنت تنقل سيرة الخليل من المحسي القح (عبد المطلب الحدباي) لكن هي الخراقة الإعلامية والاستعجال وتقديم العمل المبتور والممجوج.. حتى ذلكم الشاعر الغنائي، وقد ندَّ عني اسمه الآن، والذي كان في الاستديو بدأ يأتي بكلام غريب عن الخليل، ويشرح شعره شرحًا لا يدخل العقل ولا المنطق، فمثلاً.. قال عن مقطع (يا جميل يا نور الشقائق.. املأ كاسك واصبر دقائق... الخ).. قال الرجل (إن خليل كان يقصد «جميل» رئيس وزراء مصر في ذلك الوقت وربما هو جميل صدقي باشا إذا لم تخني الذاكرة.. يقول هذا الشاعر.. إنه يقصد بالكأس قلم الحبر لزوم التوقيع على ورقة الاستقلال.. واملأ كأسك بمعنى (املأ) القلم بالحبر بعد التأكد من حضور الجميع أثناء انعقاد المجلس ليكتمل النصاب) وهذا تفسير أقل ما يوصف به أنه يصور الخليل على أنه على قدر من السطحية والضحالة، وأجزم بأن الخليل في هذه الأبيات كان يقصد مجالس أم درمان ومنتدياتها، في زمن كان فيه مجتمع أم درمان ليبراليًا.. وحتى عندنا في البلد كان عادياً أن يتعاطى الناس الخمر في مجالس الأنس والسمر (الندامى).. وكان إخوان الكاس يتفقدون الغائب ويسألون عن غيابه لربما أصابه مكروه، وهذا هو ديدن عالم (البوقانا) تجمعات اجتماعية إبداعية فيها حل للمشكلات، وفي مجالس النخبة كانت حلقات من العلم والإبداع والترف الفكري والسياسي والفني.. فخليل عندما يقول (يا جميل يا نور الشقائق) يتذكر تلك الخلاسية الجميلة (فوز) صاحبة المنتدى الذي آوى جماعة الاتحاد ومنهم خليل بعد أن أصابهم نوع من الاكتئاب واليأس إثر فشل ثورة (24م).. وتدليلاً على هذا الاستنتاج فإن خليل في كل القصيدة يرثي حاله ويودع أم درمان بعد أن شعر بأنه لا محالة راحل راحل.. والحديث موجه لتلك الخلاسية الرائعة التي لعبت دوراً مهماً في تاريخ أم درمان سياسياً وفنياً وأدبياً حيث فتحت دارها لتلك النخبة من النجباء الوطنيين أمثال خليل وتوفيق صالح جبريل والعبيد وباقي المجموعة.. نعم الحديث موجه إليها لأن المجلس في بيتها (غير مكتمل) لأن خليل هنا يذكرها بأنه راحل عن هذه الدنيا ولا مكان له بين أقرانه.. وأنه لا يستطيع إكمال المشوار الوطني وإلهاب الحماس، ولكن هذا الشامخ ما زال موجوداً حتى يومنا هذا ويكفيه شرفاً أن الجمهورية الثانية في التاسع من يوليو بدأت بأغنية عزة وبصوت الخليل عبر التلفزيون القومي وكان هذا فيه ذكاء شديد لإثارة الحماس والوطنية.. ونواصل.