السؤال المحيِّر الذي يزداد لزوجة، لدى المشتغلين بمهنة الكتابة أو الصحافة.. هو: لماذا ولمن ومن أجل أي هدف نكتب؟ ولمن نسود الصحائف؟! هذا السؤال الدائري اللولبي القاسي، يقفز كالسنجاب البرّي فوق عقولهم وداخلها.. ويظل بلا إجابة..!! خاصة إذا أصبحت الكتابة فعلاً عبثيًا «لا يودي ولا يجيب...»، وذلك أن السلطة وأي سلطة، دائماً صماء أو تجيد حرفة التجمُّل بالصمم، قد تسمع ولا تأبه، وقد تقرأ ولا تهتم...!!! وتبلغ الحالة الكلية الجمعية مرحلة السأم الحارق.. وتصبح الأحبار والأوراق والصحف، مجرد «أناتيك» تُزيِّن «بترينة» الحياة السياسية وهي في أقصى درجات سيولتها البائسة..! وليس بالطبع من إجابة هنا وهناك، ومن قال إن الساسة والسلطويين على مرِّ التاريخ، يقرأون ويستمعون ويستأنسون بما يستحسنونه من رأي؟ من قال ذلك لابد واهم وكاذب، فأسوأ ما في السلطة أنها تدفق في نفس عبادها ومريديها وجوقتها، أنهم أنصاف آلهة بلا خطايا.. ولكن.. ليتهم بلا خطايا.. لأن من رفق الخالق بعباده أن الخطايا وإن أنتنت لا تفوح..! ولو كانت تفوح لتحولت الدنيا كلها إلى قمامة من صديد.!! «ب» لربما كان الشاعر اليمني عبد العزيز المقالح، صادقاً إلى حد البلاهة عندما أطلق ذات الأسئلة في قصيدته «أسئلة ومرايا»: ٭ هل أخطأت طريقي حين اخترت الحرف فضاءً وجناحاً أُطلق قلبي في ملكوت الذكرى أبحثُ في نفق لا ضوء به عن برق مسجونٍ يرسم لليل صباحا..؟ هل أخطأت طريقي فانسكب الحرف على دربي شوكاً وجراحا..! ٭٭٭ دثّرني صمتي بلحافٍ من ماء الكلمات وأخفى رأسي تحت سحابته لم أندم.. عانقت الصمت وأيقظت حروفي وطقوس شجوني فيه وأطلقت لأجفاني ماء الحزن وغيم الحسرات نصف بلادٍ لا تكفي ونصف صباحٍ لا يكفي ونصف صديقٍ لا يكفي يخاتلني فرح ينشر ضوءاً مكسوراً فوق مسائي أية أشباح تسرق نصفي أي غرابٍ يصطاد إذا جاء الليل غنائي..؟ يتخلى عني الأصحاب.. فأهجرهم وأرى في الشمس.. وفي الشجر الأخضر في الورد ملايين الأصحاب يهجرني الشعر فأشعر أن حدائق روحي معتمة وجدار القلب بلا نافذة أو باب.. ٭٭٭ يتخلى عني السلطان.. فتخضر الروح بوديان من وردٍ ورياحين وأرى قفصاً يتهاوى وقيوداً حولي تسقط وأفر كعصفور يتشوّق للشمسِ والنسمات وتفلت روحي من جثث ووجوه كالأحذية الملقاة على العتبات.. «ت» وكان الشهيد سيِّد قطب قد ترك كاتلوجاً يقود للكنز الخالد الذي تقبع فيه الكلمة الصادقة : «إن كلماتنا تظل عرائس من الشمع حتى إذا متنا في سبيلها، دبَّت فيها الروح وكُتبت لها الحياة..» وكأن سيد قطب، يجعل من هذه الدفقة الباهرة المتلألئة كالشعاع، ظلالاً يتفيؤها أهل القلم والكلم. فكلما أظلمت الدنيا وطغى السلطان وتجبّر، فالكلمة الصادقة الأمينة ستبقى دوماً، دوحة تمد عروقها في القلوب فتروي وترتوي وتخضّر وتزهر. لكن في زمن العلامات الكبيرة والغباء، كما يقول شاعرنا الكبير عبد القادر الكتيابي.. تنداح الأسئلة وتجري كالنار في الحلوق و كالماء الحار يتشقق من حجارة الأعين الحائرة. وللكتيابي رهق مع الأمنيات والمثال والرؤى والكمال، مثلما له ألق في الحزن والألم العنيد حين يسقط عند ناظريه كل زاهٍ وكل جمال.. فيتنهّد ويقول: ٭ كفى يا شعر ما غادرت في التاريخ وما قصّرت في التوبيخ شكراً لك لأنك حين قلت الحق كان القول مسجوعاً فأرقصهم ولما قلته بالنثر.. أربكهم وكم حاولت من مسلك.. فشكراً لك ستبقى هكذا يا شعر مهراجاً بباب القصر درويشاً على الطرقاتِ أو بوقاً لحزب اللاتِ موضوعاً لمن حولك فقل ما شئت مهما قلت لن يتبينوا قولك.. «ث» وثمة أمر آخر، إن الحياة عندما تتحوّل فيها الكلمة والقلم، لكائنات أولية أميبية هلامية واهية، تصبح الكلمة والأفكار مجرد خِرَق بالية، تُمسح بها الأحذية السلطانية المتسلطة، وتُلقى على الطرقات.. ففي هذه الحالة.. لا يدري من يكتب بصدق ماذا يكتب؟ ولمن يكتب؟ وفي المقابل يدري من يكتب بكذب، أنه يكسب بما يكتب ويكتب لكي يكسب ويكسب لكي يكذب ويكذب ليكسب .!!! وعندها تفقد الأحرف والكلمات والأفكار قيمتها وجوهرها الغالي، وتصبح الصحف، مجرد أسماك زينة، وبعض موجودات المسرح العام بإضاءاته وصوتياته وكواليسه.. فبئس المصير ...! ولذلك يتوجب، البحث عن جملة مفيدة، وسط الهراء السياسي الذي يسود العالم اليوم، لكي تأخذ الكلمات قيمتها، والرأي مكانته، والفكرة قوتها وبهاءها والنضار.. لابد دون الشهد من إبر النحل.. وتلك طريق قاسية ووعرة وشائكة، كُلفتها باهظة لا تجارى ولا تبارى. وما أقسى احتراق القلب والعقل معاً.. ينتحبان على تلة من ركام، ويبكيان على أزمنة من نزيف. «ح» ومن هنا، فإن الدعوات الصادقات والأمنيات.. أن يزورنا الوعي بما نرى، ليكون وعينا كضوء القمر الساطع لا تغطيه الغيمات، أو ينفحنا عبير من الصدق والمسؤولية، ليُذهب لفح هذه المجامر والمواجد.. فأصعب وأشجى ما يراه من يتعاطون حرفة الكتابة، هو مرأى الواقع بكل كذبه وسرابه وضجيجه وانتفاخات السياسة وانتفاشاتها، ولا أحد يستجيب إذا بذل له النصح وبانت أمامه الحقيقة، فالنصيحة والحقيقة هي من خصوم أهل السلطان، لا يقبلون نصيحة من أحد، ولا يريدون الحقيقة وإن توسلت لهم واستصرخت، أو أن تخرج للناس هذه الحقيقة وهي ترتدي عباءة من شعاع..!! وليت من يكتبون، يعلمون أنهم يصرخون في وادي الصمت، ويسودون الصحائف في زمن القحط.. وتلك لعمري محنة أخرى.. لكن لماذا لا نرتاح مع سيد قطب في أفراح روحه ونقتبس منها هذه الكلمات: عندما نعيش لذواتنا، تبدو الحياة قصيرة ضئيلة تبدأ من حيث نعي، وتنتهي بانتهاء عمرنا المحدود. أما عندما نعيش لغيرنا، أي عندما نعيش لفكرة، فإن الحياة تبدو طويلة، عميقة، تبدأ من حيث بدأت الإنسانية وتمتد بعد مفارقتنا لوجه هذه الأرض، إننا نربح أضعاف عمرنا الفردي في هذه الحالة.. نربحها حقيقة لا وهماً.. إننا نعيش لأنفسنا حياة مضاعفة، حينما نعيش للآخرين، وبقدر ما نضاعف إحساسنا بالآخرين نضاعف إحساسنا بحياتنا، ونضاعف هذه الحياة ذاتها في النهاية. « إن المبادئ والأفكار في ذاتها بلا عقيدة دافعة مجرد كلمات خاوية أو على الأكثر معانٍ ميتة! والذي يمنحها الحياة هي حرارة الإيمان المشعّة من قلب إنسان! لن يؤمن الآخرون بمبدأ أو فكرة تنبت في ذهن بارد لا في قلب مشع آمن أنت أولاً بفكرتك، آمن بها إلى حد الاعتقاد الحار! عندئذ فقط يؤمن بها الآخرون! وإلا فستبقى مجرد صياغة لفظية خالية من الروح والحياة.. لا حياة لفكرة لم تتقمص روح إنسان، ولم تصبح كائناً حياً دبَّ على وجه الأرض في صورة بشر!.. كذلك لا وجود لشخص في هذا المجال لا تعمر قلبه فكرة يؤمن بها في حرارة وإخلاص. إن التفريق بين الفكرة والشخص كالتفريق بين الروح والجسد أو المعنى واللفظ، عملية في بعض الأحيان مستحيلة، وفي بعض الأحيان تحمل معنى التحلل والفناء. كل فكرة عاشت قد اقتاتت قلب إنسان أما الأفكار التي لم تطعم هذا الغذاء المقدّس فقد ولدت ميتة ولم تدفع بالبشرية شبرًا واحدًا إلى الأمام