تصاب الأمة بالداء العضال عندما تبتلي بحب الرئاسة، ويضطر الأفراد الذين تعمق في قلوبهم هذا المرض، إلى جر المجتمع نحو الاستقطابات والمواجهات، فينقسم الناس بين مؤيد لهذا الفريق أو ذاك، ولا تنجلي مثل هذه المعارك في أغلب الأحيان إلا بانتصار جماعة على جماعة، وغالباً ما يحدث هذا الانتصار بإراقة الدماء، وتقديم التضحيات الغالية بالاعتماد على رفع أسنة الرماح، وتصويب المدافع و البنادق نحو أنصار الفريق الآخر الذي لم يقو على المقاومة، فاقداً بذلك ما يقوده نحو الانتصار. والسلطة أصبحت هدفاً للتحكم في مصائر المجتمعات والدول، على ضوء الذي نشاهده من صراع عليها بين الأحزاب والفئات، بحيث لم يعد السلام متحققاً ولا الأمن قائماً إلا إذا كان ولاء الناس لمن يملك أسباب القوة بإرتضاء الذلة والمهانة، أو إن حدث العكس فمصير الذين يرفضون عندئذ سيكون حتمياً إما قتلاً أو سحلاً أو سلباً للحرية في زنازين العذاب. ففي البلدان الأوروبية، كان الصراع على أشده بين الطوائف والجماعات للسيطرة على الموارد والظفر بمقاعد الرئاسة والقيادة، وأثناء ذلك الطريق الوعر سالت دماءٌ كثيرة واشعلت حروب طاحنة تطورت حدتها لتصل إلى سقوفات عالية بفعلها قسمت دول العالم بين محور ومحور ومعسكر ومعسكر، مما أدى إلى تفجر حروب عالمية لم تترك أخضر ولا يابساً إلا وحولته إلى رماد. وأوروبا، بلغ مستوى الصراع مرحلة جعلت مجتمعاتها تصل إلى قناعة قادتها نحو صياغة نظم خلصتها من عناصر الاحتراف والاقتتال بإيجاد الذي سادها حالياً من ديمقراطيات وضعت حداً للأسباب التي كانت تقف وراء المواجهة بين القوي والضعيف تسابقاً نحو مواقع القيادة والسلطان. وياليت المجتمعات الإسلامية، التي كانت قد ابتليت بداء السلطة المتمثل في قياداتها، قد اعتبرت بما أحدثه ذلك الداء من خسارة انعكس أثرها على وحدة المسلمين بتفريق شملهم، وتمزيق كيانهم إلى طوائف ودويلات. وللأسف، لم يقرأ المسلمون رصيدهم المنهجي، ومبادئهم العقدية، التي تؤكد بأنه بالإمكان لمن هو أدنى أن يسعى بذمة الجميع باعتبار أن خادم الأمة هو سيدها، وفقاً لما استقرت عليه عقائدنا مما نصت عليه سنة النبي محمد عليه أفضل الصلاة والسلام. ونحن عندما نتأمل في مشهد مجتمعنا السوداني نلاحظ بأن داء السلطة والجنوح نحو الصراع ما تزال آثارهما ذات تأثير خطير على مجريات واقعنا السياسي، بدلالة الإصرار على ممارسة ثقافة العنف ورفع السلاح، اتكاءً على أسباب ليست حقيقية، بقدر ما هي علل ومبررات للحصول على مأرب سلطوي، أو موقع سياسي، مما لا نحتاج لإثباته لدليل أو برهان. فالذين ظلوا متمترسين تحت مظلة المعارضة لا تلين قلوبهم من أجل أمن المجتمع وسلامته، إلا بنيل منصب محاط بالأبهة والإمكانات، وعندها تقتل لديهم الرغبة في حمل السلاح مقابل الذي تحقق من رغبات ذاتية والدوافع الرئيسة حول ما يثيرونه من زوابع واحتجاجات. وفيما لو انصاع طلاب السلطة إلى كلمة العقل، وآمنوا في دواخلهم بأن الملك المطلوب كالرزق غير المكتوب، الذي قال عنه فرح ود تكتوك (الذي يجري جري الوحوش غير رزقه ما بحوش). كما أن الحديث القدسي و إن رأى بعض الفقهاء ضعفه غير أنه يسير في اتجاه الواقع والمعقول حيث ينص: (يا عبادي خلقت السموات والأرض ولم أعيا بخلقهن أيعينني رغيف أسوق لك في كل حين وعزتي وجلالي لئن لم ترض بما قسمته لك لأسلطن عليك الدنيا تركض فيها ركض الوحش في البرية، ثم لا ينالك منها إلا ما قسمته لك ولا أبالي). وكذلك من يطلب الملك بالقوة قد يفاجأ بأن الله قد وهبه لعبد من عباد الله، ضعيفاً بمنطق السلاح، لكنه قوي بمشيئة تنهار أمامها كل القوى التي يملكها من أراد أن يوجهها عكساً للقضاء والأقدار. وبالفعل، المسلمون تتكافأ دماؤهم ويسعى بذمتهم أدناهم، وغاية الأماني بأن يدرك طلاب السلطة ذلك بقدر من الواقعية والمنطقية حسب الذي حدثنا به التاريخ.