عندما كنا تلاميذ بالصف الثالث بالمدرسة الأولية قمنا مع معلمنا الفاضل في حصة الجغرافيا بعدة زيارات خيالية مصحوبة بالصور والخرط لعدد من المناطق بأرجاء القطر المختلفة واتّسمت تلك الأماكن بتبايُن في المناخات وسبل كسب العيش، والقاسم المشترك الأعظم بينها هو الزراعة بشقيها النباتي والحيواني، وكانت توجد جمعيات عديدة على رأسها جمعية الفلاحة المدرسية حيث يُعِدُّ التلاميذ أحواض الخضروات ويقومون بزراعتها وريها ونظافتها من الحشائش وحصادها مع الاهتمام بالأشجار داخل المدرسة وسُورها إذا كان من النباتات مع تشذيب النجيلة والاهتمام بريها إن وُجدت وفي هذا تربية عمليه للنشء وربطهم بالزراعة منذ نعومة أظافرهم. وفي معظم أنحاء القطر كانت الإجازة السنوية تتزامن مع فصل الخريف ويقوم التلاميذ بالعمل مع ذويهم ومساعدتهم في كافة مراحل الزراعة. وفي منتصف سبعينيات القرن الماضي فكر دكتور محمد خير عثمان وزير التربية والتعليم وقتئذٍ في مشروع سمّاه مشروع التعليم الأخضر أو الثورة الخضراء ويهدف المشروع لربط التلاميذ في كل مراحل التعليم العام بييئتهم ومجتمعهم الزراعي الذي يعيشون وسطه وحتى الذين يرتبطون في مستقبلهم بأعمال أخرى غير مهنة الزراعة كان يهدف لتشجعيهم لزراعة الأشجار المثمرة والخضروات مع تربية الدواجن والمواشي في منازلهم بقدر استطاعتهم ويساهم هذا في استقرار الأسر مادياً ولكن المشروع لم يبرح مرحلة الفكرة لمرحلة الخطة والمنهج والتنفيذ لأن السيد الوزير أُعفي من موقعه قبل أن تتبلور فكرته توطئة لتنفيذها بعد إجازتها، ومن بين أهدافها احترام العمل اليدوي، والملاحظ أن الكثيرين حتى من الفاقد التربوي ظلوا ينفرون من العمل اليدوي ويحبذون أداء المهن الهامشية المريحة التي يعقبها التحلق للأنس في أمكان بيع الشاي والقهوة والدليل على التهرب من العمل اليدوي أن المزارعين في القطاعين المروي والمطري يعانون كثيراً في مواسم الحصاد لقلة الأيدي العاملة وارتفاع تكاليفها. وقد عرف السودان التعليم الصناعي والمهني منذ وقت باكر بتسلسل هرمي متدرج إذ كان بعض من يكملون المدرسة الأولية يلتحقون بمدارس صناعية لتعلم إحدى الحرف «نجارة وبناء، وحدادة... إلخ» وكان بعض خريجي المدارس الوسطى يلتحقون بمراكز التدريب المهني لتعلم «الميكانيكا الكهرباء والخراطة والبرادة ... إلخ» وكان عدد من خريجي المدارس الثانوية الصناعية «ذات الثلاثة أعوام في ذلك الوقت» يلتحقون بالكلية المهنية العليا ويلتحق خريجو المدارس الثانوية الصناعية أو الأكاديمية بالمعهد الفني القسم العالي وينال بعضهم بعد ذلك دراسات عليا في الخارج وكل هذا في مجمله يوفر عمالاً مهرة وكوادر فنية وتقنية وسيطة وعالية ذات تأهيل أرفع وتتكامل أدوارهم والحاجة لكل منهم ماسة، وعلى ذات النسق قامت فصول زراعية لاستيعاب بعض الذين أكملوا المرحلة الأولية وعلى سبيل المثال كان يوجد فصل زراعي في بركات ومدة الدراسة به ستة أشهر «قرابة عام دراسي» ويسمى التجارب، ويتم التصديق ببضعة أفدنة لكل من يكمل دراسته بهذا الفصل ليزرعها خضروات في الأرض المرتاحة داخل مشروع الجزيرة، وكانت توجد فصول مماثلة بمناطق أخرى ولم يعد لها الآن وجود، وكانت توجد في الجزيرة أبا قبل عدة عقود من الزمان تجربة مماثلة، وفي معهد بخت الرضا كان يتم استيعاب من يتم قبولهم من خريجي المدارس الوسطى ليكملوا عامين دراسيين يتخرجون بعدهما للعمل معلمين بالمدارس الأولية، وفُتح في المعهد ذاته نهر يُستوعب فيه طلبة من خريجي المدارس الوسطى لقضاء عامين يدرسون فيهما الزراعة ويعملون بعد تخرجهم فنيين زراعيين، ولم يُكتب النجاح والاستمرار لتلك التجربة وطُويت صفحتها منذ أمد بعيد. وكانت في الأبحاث الزراعية بودمدني فصول لتدريب الفنيين المساعدين أو الحشريين. وقد أدى معهد شمبات الزراعي دوراً مقدراً في تأهيل كوادر زراعية كثيرة، وكانت توجد أيضاً معاهد بيطرية وسيطة خرَّجت فنيين بيطريين في مختلف التخصصات المتصلة بالماشية أو الدواجن، وكانت كلية الزراعة بجامعة الخرطوم تخرِّج أعداداً كبيرة من الخريجين، وأتت بعدها تباعاً كليات الزراعة بالجامعات الأخرى، ونال الكثير من الزراعيين دراسات عليا في مختلف التخصصات «هندسة زراعية واقتصاد زراعي ومراعٍ وبساتين وغابات ...إلخ» والمؤسف أن آلاف الخريجين من كليات الزراعة المختلفة وعلي مدى سنوات متصلة ظلوا بلا عمل في مجالاتهم وكان بالإمكان الاستفادة منهم جميعاً بمنح كل منهم قطعة أرض زراعية مع منحه قرضاً بشروط سهلة ليتسنى له تسديده ومن ثم يتمكن من تسيير المواسم القادمة من عائد إنتاجه، وفي هذا استيعاب لهذه الأعداد الكبيرة والاستفادة من مؤهلاتها، وهؤلاء يمكن أن يساهموا في تطوير الزراعة التي ينبغي إدخال التقانة الحديثة والمكننة فيها، ومسايرة التقدم في مجالها، والمؤسف أن التقديم لكليات الزراعة أصبح في ذيل رغبات الطلبة، ولذلك تدنت النسب في شهادات الذين يُقبلون فيها لأن الإقبال عليها أصبح يقل عاماً بعد عام بدلاً من أن يزيد في بلد زراعي.. ولو وُجد التخطيط السليم والهمَّة العالية لحدثت قفزة هائلة وارتفاع في معدل الدخل القومي من الزراعة. وكل المقومات موجودة من أرض شاسعة واسعة ومياه ومزارعين مجربين وزراعيين مؤهلين في شتى التخصصات، ويمكن أن يتكامل جهدهم مع الإداريين والاقتصاديين والعاملين في الري لإحداث هذه الطفرة ولكن السودان في مجال الزراعة أصبح «كالعيس في البيداء يقتلها الظمأ والماء فوق ظهورها محمول». والأمل أن تُبعث فكرة مشروع التعليم الأخضر من مرقدها لتكون ضمن عوامل أخرى نواة لثورة ونهضة زراعية حقيقية نرى فيها هذه المرة طحيناً ولا نسمع جعجعة.