في دراسته الفلسفية العلمية التأصيلية ذكر فيلسوف العلوم الكبير توماس كون أن سقوط البرادايم العلمي يتأتى من عجزه عن تفسير قضايا كبيرة، أصبحت أكبر من طاقة التقاليد والنظريات العلمية، التي تراكمت في ظل سيادة هذا «البرادايم» على معالجتها. ذكر ذلك في كتابه التأسيسي الخطير «بنية الثورات العلمية». وقد اشترط البروفسور كون لنشأة «برادايم» جديد، أن يتمتع بطاقة تحليلية أوفر، تمكنه من تفسير جميع القضايا التي كان يعالجها «البرادايم» المنهار، وأن يفسر على الأقل جزءا من القضايا التي عجز «البرادايم» القديم على التعامل معها. ولكن هذا الذي ينسبه أتباعه إلى الفلسفة، محمد أبو القاسم حاج حمد، وهي منه براء، لأنه مجرد مفكر وضعي، غنوصي، مخلط، شاطح، يريد أن يقوض تقاليد البحث العلمي الإسلامي، وخاصة المتعلقة منها بتفسير القرآن الكريم، من دون أن يقدم لنا أي «برادايم» أو أي منظور علمي تحليلي جديد. وإنما قدم حشوًا مختلطًا من المعارف، التي اقتنصها من بطون الكتب، التي قضى لياليه في الاطلاع عليها، وتلخيصها، وحشد ترهاتها في بطن كتابه، تمامًا كما فعل صنوه في الادعاء البروفسور محمد عابد الجابري، الذي تعلقت همته، هو الآخر، بإنجاز تفسير مشبوه للقرآن الكريم، اتجه إلى ترتيب سوره حسب أسباب النزول، متابعًا في ذلك نهج المستشرقين الألمان، الذين سعوا منذ ثلاثينيات القرن الميلادي الماضي، إلى إنتاج مصحف جديد، مرتب حسب أسباب النزول! وبهذا الحشد اللاحب من المعارف اللاغطة التي زج بها حاج حمد في كتابه، حتى نفخه من كتاب في الحجم العادي في طبعته الأولى، إلى مجلد في نحو ألف صفحة في طبعته الأخيرة، انبهر القراء البسطاء، الذي يظنون أن قوة المناهج العلمية تتولد من كثرة الحديث عنها، لا من إمكانية تطبيقها واستخدامها لتوليد نتائج جديدة عجزت عن إنتاجها المناهج السابقة. وقبل قليل ذكرنا أمر البروفسور الجابري عندما قارناه بسعي صاحبنا هذا في تفسير القرآن الكريم حسب منهج مبتدع جديد. ولنقل الآن إن الجابري كان أكثر جدية من صاحبنا هذا عندما طبق منهجه «ولكن باختلالات واضحة انتقده عليها حتى بعض أتباعه العلمانيين!» وذلك لأن صاحبنا هذا لم يزد على دعواه بفساد مناهج المفسرين القدامى، وادعائه بأنه أجدر منهم على الاضطلاع بتلك المهمة، التي نذروا لها أعمارهم ولم يصيبوا فيها نجاحًا كما زعم! وهكذا بقي أبو القاسم حاج حمد إلى يوم هلك يتحدث عن منهجه الجديد المزعوم، ولم يتقدم خطوة ليجرِّبه، حتى نرى إن كان صالحًا لتوليد نتائج جديدة، أم أنه منهج تضليلي عقيم. وفضَّل بدلاً من ذلك أن يداعب مخيلات المثقفين، وأشباههم، بتكرار الحديث الممجوج، عن المنهج، وعهدنا بكثير منهم يحبون ذاك الحديث الممجوج! والاهتمام بمناهج البحث أمر محدث نسبيًا، وقد اتجه بعض العلماء إلى الإعلاء من أمر المنهج، لأهمية ذلك في ضبط مسار البحث، وضمان الوصول إلى نتائج دقيقة، ذات صحة ومصداقية. وغالى بعض العلماء في تأكيد أمر المنهج، لما رأوا من أبحاث كثيرة، لا تنهج النهج السوي، وربما لا يفقه أربابها شيئا كثيرًا في مناهج البحث العلمي القويم. وهذا جهد طيب، بلا ريب، جهد الجهابذة الذين يؤكدون بين كل حين وآخر على ضرورة اتباع مناهج علمية سليمة، وربما تطوع بعضُهم لتدريس جانب منها، في كل مادة يتولون تدريسها في الجامعات. ولكن الأمر تجاوز الحد إلى الإفراط، عندما انشغل العلماء والباحثون بالمنهج، أكثر مما انشغلوا بتدريس المادة الموكل إليهم تدريسها للطلاب. وعندما انشغل بعض الباحثين بأمر المنهج، أكثر مما انشغلوا بتحليل الموضوع الذي اختاروه للبحث. وأسوأ من ذلك أن بعض الباحثين جعلوا من عملية تطبيق المنهج وممارسته الأصل في موضوعاتهم البحثية. واختاروا موضوعات لا قيمة لها، ولا خطر، ليجربوا عليها مناهج البحث التي كُلِّفوا بها. وقد رأينا في حقل العلوم السياسية دراسات كثيرة، من أتفه ما يكون الشأن، ولكن تطبق عليها مناهج بحثية، في غاية التعقيد، وتستخدم في غمار ذلك مصلحات من الرطانة الأكاديمية، لا يكاد يفقهها إلا صاحب البحث، هذا إن صح حقًا أنه يفقهها. ولست أنسى ما نسيت كتاب مرهقا في مادة العلاقات الدولية، كان لزامًا عليَّ أن أطلع عليه، وأُمتحن فيه، وهو كتاب في غاية التعقيد، والإملال، والإبهام، في منهجه ومصطلحاته على السواء. أما موضوع الكتاب فكان من أبسط ما يكون، فقد قام الباحث بتحليل محاضر اجتماعات مجلس الأمن الدولي، التابع للأمم المتحدة، لمدة طويلة من الزمن، لا أذكرها، وخرج من بعد التحليل المضني، الذي استخدم فيه معادلات رياضية، وإحصائية، عديدة، أن الموضوعات التي يشتد فيها الجدال بين أعضاء مجلس الأمن، ويطول، تصدر عنها قرارات مهمة! تلكم هي النتيجة المتواضعة، التي خرج بها الباحث، بعد لأي، ونصب، لاهث، وكان يمكن أن يخرج بها من دون هذا البحث الطويل، بل يمكن أن يصل إليها أي إنسان معتدل الثقافة، والمعرفة السياسية، بلا بحث ولا جهد جهيد. وعلى هذا النسق الذي تورط فيه بعض علماء السياسة، انحدر بعض أساتذة الأدب العربي ونقاده، لاسيما الحداثيين منهم، فقد أطالوا اللجاج، والثرثرة، والترترة، والبربرة، حول مناهج النقد الأدبي الكثيرة اللغو والادعاء، ومنها المناهج الشكلية، والبنيوية، والواقعية، والوظيفية، والظاهراتية، والضمنية، والتحليلية النفسية، والتفكيكية، والتشريحية، والتكعيبية، والتركيبية، والدادية، والأسلوبية، والسيميائية، والتناصية، والجمالية، والثقافية، والتجريبية. وغيرها من المناهج المتعقدة المتعقرة. وأكثرها قليل الفائدة، ضئيل الحظ من التوفيق في استبطان النصوص الأدبية، الإبداعية، وتجلية ما فيها من مواطن الفن والجمال. وعلى هذا المنزلق انحدر الأستاذ محمد أبو القاسم حاج حمد، الذي أكثر من حديث المنهج، وتجريده، وتنطيطه، وتشعيبه، وتدقيقه، وتكثيفه، وإتراعه بالمصطلحات الغامضة، المبهمة، حتى غدو المنهج لديه سحرًا وهَّاجًا، يبهر الألباب، ويخلبها، ويطول الحديث عنه عند الناس، ويشيدون به في نشوة وإعجاب، ولكن لا يجرؤ أحد منهم على تطبيقه، بل لا يجرؤ صاحبه نفسه على تطبيقه، وإن فعل لم يخرج إلا بنتائج باهتة جلها مفارق للصواب. وقد شهد أخونا البروفيسور محمد بابكر العوض، عميد معهد إسلام المعرفة بجامعة الجزيرة، وهو أحد المعجبين بأعمال حاج حمد الفكرية، ومنهجه البحثي، بما نقول، وأسدى اعترافًا لا يصدر إلا عن طبع منصف نبيل، فأقر ببساطة النتائج التي تم التوصل إليها حتى الآن باستخدام منهج حاج حمد.