أخطر الهزائم التي تلطم الأمة وتشل قواها، تلك المؤامرات التي يشعل عودها ويلهب عوارها الآخر الكافر والغازي المحتل، حين يسخر قوى داخلية من لحمة الأمة يستعمل أدواتها ومطالبها وتوجساتها ووسواسها وهوسها وجهلها بمآلات النظر والمستقبل، فينتج عن ذلك أخطر أنواع الهزائم القاتلة التي عرفها تاريخ الحروب والقتال، وحسمت المعارك الحضارية والمعارك حول السلطة والسيادة بأقل الخسائر وأقصر الطرق، وأسرع الأوقات حتى أنها تخرج أحياناً عن حدود التصور والخيال والواقع. هذه الهزائم التي نريد أن نرمي السهم نحو محرابها هي الهزائم النفسية والمعنوية والاغتيال القيمي والروحي الذي ظل ثغرة في ظهر الأمة تأتي منه كل الضربات واللطمات.. إن الهزيمة النفسية والمعنوية أمام الآخر «الكافر المحتل الطاغوت» تحقق له أهدافاً وانتصاراً أغلى وأحلى من الانتصار بقوة السلاح والعتاد والعدة والتفوق التكنولوجي والمادي، فكم خسرنا معارك وتجرعنا مرارة الهزائم بسبب هزائم نفسية، ونحن في طريقنا لما نلقى العدو بعد.. ولم تتهاو النواصل وتسيل السيوف دماً. نكتب هذا المقال نريد أن تكون محاولة على الطريق جادة تقارب وتسادد، وتذهب لتسد ثغرة ظلت مفتوحة في أغلب الأحوال غير مكترس لها عند كثير من الأكاديميين وكتاب إعلاميين ومحللين سياسيين، بل عند بعض القادة والدعاة والعلماء! لا يمنحونها الاهتمام الكافي، ولا تصطحب معهم أثناء معاركهم القتالية أو الحوارية أو الفكرية أو عند سجالهم. ومناظراتهم!! إن قضية المصطلحات كيف تصاغ، وكيف تولد وتنشأ وتحمَّل الموجهات والخلفيات الحضارية والثقافية والعقدية والفكرية؟ باتت حقيقة يدركها كل سليم عقل باحث ناظر ببصيرة وحكمة، وإنما تغيب أمام مشهد الغافلين والمستهلكين لزاد الآخر من أفكار وإبداع وبصمات. تابعت بالقراءة المساجلات والحوار الذي نتج على خلفية ما تناولته الصحف والقنوات المحلية من أخبار الجماعة المسلحة التي كشفت عنها السلطات أخيراً بمنطقة الدندر بولاية سنار، وما سبقها أيضاً من أحداث الهجوم على بعض الأضرحة بشرق النيل، ومسيرة نصرة النبي صلى الله عليه وسلم عقب سلسلة الرسوم المسيئة التي ظل الغرب الكافر يتبادل فيها الأدوار بين الفينة والأخرى، والهدف الكلي واحد ويصدر عن قوس واحدة. تابعت هذه الحوارات، وكان أبرزها الحلقة التلفزيونية التي قدمها الأخ الطاهر حسن التوم بقناة النيل الأزرق من خلال برنامجه الجريء «حتى تكتمل الصورة» التي استضاف فيها الإخوة الياقوتي وزير الإرشاد والأوقاف بالإنابة، والدكتور محمد علي عبد الله الجزولي مدير مركز الإنماء المعرفي والكاتب الصحافي ب «الإنتباهة»، ومكي المغربي الكاتب الصحافي المعروف، ودار الحديث سجالاً طويلاً بينهم، وكان كل واحد منهم يريد أن يحقق هدفاً معيناً يدعم به وجهة نظره التي يؤمن بها، ولا مؤاخذة في ذلك، حيث أنت لا تستطيع أن تجعل الناس نسخة واحدة في الفكر والرأي، ولكن القدرة ممكنة في جعل قواسم مشتركة.. وكان الحوار في مجمله جيّداً متأدباً، وكان السيد الوزير مصراً على أن يميل دائماً نحو إدانة من يطلق عليهم كلمة «متطرفين» وكاد أن يتقوقع ويتشرنق في قالب طائفي ومذهبي، ولذا انتهى جهده إلى طلب الإدانة.. والأخ مكي المغربي قدم تصوراً مفاده أن هؤلاء يمارسون الجهاد انطلاقاً من قاعدة الجهاد بالاجتهاد الذي يتجاوز نصب الرأية خلف إمام واحد يقود الجهاد، وكان يفضل الميل نحو خلق توازن، وإن غاب عنده أحياناً إيجاد المبرر، ودكتور محمد علي عبد الله كان يركز على قضيتين، الأولى تبرير بعض مواقف الشباب بسبب تفشي مظاهر الخلل التي تعامت عنها الدولة، فوجد هؤلاء الشباب أنفسهم أمام مواقف مخزية وهو محق في ذلك ولذا طالب بمعالجة الأسباب التي تفضي بهؤلاء الشباب نحو الجنوح إلى تفكير ما.. والقضية الثانية محاولته الجادة منع إطلاق صفة التطرف على إطلاقها، والخلط بين من خرج يوم نصرة النبي صلى الله عليه وسلم نحو سفارتي ألمانيا وأمريكا وحادثة الدندر، وربط ذلك بالتيار السلفي بصورة عامة دون تقييد. وربما هذا الأمر هو الذي جعل الأخ الدكتور الشيخ عارف عوض الركابي يكتب مقالين بصحيفة «الإنتباهة» فرق فيهما بين السلفيين والتكفيريين، وهو الأمر ذاته الذي جعل الأخ مكي المغربي يشير إلى ملاحظة مهمة وهي وجود سلفيين في المسيحية، بغرض الإشارة إلى أن الظاهرة موجودة في كل مكان من العالم وليست هي مجرد شأن محلي. لا أريد التقصي والغوص أكثر من ذلك، فهذا ليس موضوع المقال.. لكن أريد أن أنبه إلى أن المتحدثين ومقدم البرنامج جميعاً أغفلوا وغابت عنهم قضية أساسية لم يشر إليها أحد منهم سوى دكتور محمد علي إشارة عابرة جاءت في ثنايا حديثه، وهي التسابق نحو استخدام المصطلحات ووصف الآخرين بها دون اكتراس وتأمل وتساؤل عن مصدر هذه المصطلحات ودلالاتها ومعانيها وظروف نشأتها، وهل هي وافدة أم وطنية؟ بصراحة ووضوح إن كثيراً من الأكاديميين والمربين والمشتغلين في حقل الإعلام والصحافة والاتصال والنخب السياسية وجماعات المفكرين يجهلون خطورة معارك المصطلحات أو يتناسونها، وتلك مصيبة داهمة ونازلة ضارة هادمة!! إن مصطلحات الإرهاب، التطرف، التشدد، الاعتدال، الوسطية، تهديد السلام العالمي، الفئات الضالة، الصراع المذهبي، التطهير العرقي، الأصولية، المدنية، التحول الديمقراطي، حرية الأديان، حوار الأديان، وحقوق المرأة والطفل وغيرها من مصطلحات.. أقول هذه المصطلحات نظامها الألفبائي واللغوي والدلالي والصوتي والصرفي من صلب ذخيرة مفردات لغتنا العربية الشاعرة الجميلة الرائدة، ودلالاتها المعنوية واللفظية والدلالية، معبر عنها في تاريخ تراثنا الديني والأدبي والثقافي والفكري والعرفي، غير أن هذه المصطلحات وغيرها أخذت من قبل الغرب «الكافر» وشُبِّعت بقيم فكرية وحضارية شاذة عن بيئة المسلم، وصيغت بعيداً عن ذهنيته التي ألفت دلالاتها المفاهمية إذا أطلقت، ثم أعيدت هذه المصطلحات إلى ساحتنا مشوهة تحمل مفاهيم جديدة، تراها وتعرفها وتنكرها، وهذه هي المعركة المدمرة الجديدة التي استحدثها العدو في إطار الصراع الحضاري والعقدي. والآن أداة حرب المصطلحات.. للأسف الشديد المصطلحات التي ذكرناها والتي لم نذكرها الذي فخخ معانيها ورسم حولها الموت الزؤام هو العدو.. أمريكا والغرب الكافر الذي قاد هجمة ضارية ظالمة سماها الحرب على الإرهاب.. بالرغم من أنه حتى الآن يرفض تعريف الإرهاب إلاّ أنه يعتبر الإسلام والمسلمين هم مصدر الإرهاب، ولذا قاد حملة شعواء غير مبررة عقلياً ولا أخلاقياً سقط خلالها ملايين الضحايا الأبرياء في أماكن كثيرة متفرقة من العالم الإسلامي والعربي، وحتى في الغرب نفسه، ومازالت الحرب الظالمة مستمرة وممتدة.ثم دلف الغرب الكافر إلى خطاب جديد أراد من خلاله شق عصا أبناء الأمة فكرياً من خلال صناعة مصطلحات ظاهرها الخير وباطنها الشر المحض، رأيناه يطلق على مجموعة من إخواننا المعتدلين ويصف الآخرين بأنهم متطرفون، وقاد مفاوضات مع من سماهم المعتدلين في طالبان ومازال يقتل من يسميهم الإرهابيين والمتطرفين، وشق عصا المقاومة في العراق حين صنع جماعات الصحوة ليفتك بالمقاومة، وحرض جيران الصومال لوأد الجهاد هناك، وزرع نيفاشا في السودان لإحياء أفكار شبعت موتاً أحياها من الرموس «مشروع السودان الجديد وجرأة العلمانيين على مواجهة الإسلام»، فقد دعم مشروع تفكيك المقاومة في غزة الصمود، والآن يدعم فلول العمالة والارتزاق في مصر ضد شرعية القائد الجبار مرسي، والآن يزعزع الاستقرار في تونس والجزائر ويتدخل لمنع صياغة حياة جديدة في مالي، وكل ذلك يتم تحت تعبئة الناس بأن المجاهدين ورجال المقاومة وشباب الصحوة الإسلامي الذي كره فوضى الغربيين في البلاد الإسلامية وتدخلهم في الشؤون الداخلية يطلق عليهم مصطلحات التطرف، في الوقت الذي يثني ويدعم من يسميهم المعتدلين وسفراء الديمقراطية والتحول المدني وهم بالأساس خبث علماني. والغرب يقود حرب المصطلحات بدوافع بسط سيطرته اللغوية وهيمنتها المفاهيمية بدعوى باطلة مفادها توحيد النمط والسلوك والإدارك والشعور على مستوى العالم، من خلال قطار العولمة المعطوب، وتلك رؤية مريضة تجافي الطبيعة والفطرة، لكن العدو يستخدم آلاته المادية المهولة في تفكيك المجتمعات والدول باسم الحرية والمدنية وحقوق الإنسان والديمقراطية وحقوق المرأة والطفل، وحقوق الاختيار عبر المصطلحات البراقة الكذوبة، والهدف معلوم لدينا، وهو اختراق القيم والفطرة وطمس سليقة الأمة، دون اعتبار لخصوصية ثقافة أو دين أو عرف أو رصيد تاريخي وميراثي عقدي وثقافي. إن دراسة المصطلحات الوافدة أداة معاركنا اليوم مع الآخر الكافر تشمل ألفاظها ومعانيها ونشأتها وتولدها واشتقاقها وبيئتها وأصحابها، دراسة دقيقة وصفاً وتدقيقاً وتأصيلاً وتقعيداً وتوظيفاً، ولا يمكن التعامل معها واستخدامها إلا بعد فصلها عن منشأها الأول ثم وصلها وفقاً لنمط حياتنا وقيمنا بعد عملية تجريد وتجنيس ثم دمج، والدليل على ذلك، منهج القرآن في معالجة هذه القضية يوم أن استعرب ألفاظاً ومصطلحات ثم استعملها في الخطاب القرآني، وهو ما ينبغي أن يدركه الأكاديميون والكتاب والساسة ورجال الإعلام والدعاة. ويسخر في بناء المصطلحات واستخدامها ثلاثة ركائز أساسية هي اللغة والفكر والقيم، فاللغة يختص أمرها في العلاقة بين اللفظ والمعنى للتفاهم والتواصل، والمعاني تصاغ لاعتبارات شرعية وثقافية بجانب المعرفة والعلم، والفكر ينطلق من محور القيمة الكبرى لإنتاج المعرفة والمواكبة والمسايرة دون تماحٍ وذوبان. إن المصطلح ذو اتصال قوي بعمليات العقل وحركة اللسان وخلفيات التاريخ، وتذوق الثقافة قبولاً ورفضاً، وموجهات الشرع ولاءً ومعاداة وتعريفاً وإنكاراً.