قلت في المقال السابق إن الهزيمة النفسية والمعنوية التي تصيب الأمة من جراء معارك المصطلحات أشد وقعاً على الأمة من فتك الأسلحة والصواريخ والقنابل العنقودية المادية، حيث إنه يمكن السيطرة على الدمار والخراب الذي يصيب العمران والموارد والمواد والأثاث والأجساد بالترميم وإعادة العمارة والتطبيب، ودونكم اليابان بعد دمار هيروشيما والنمور الآسيوية ومنها ماليزيا بعد أزمتها الاقتصادية كيف نمت وارتقت وتقدمت واستقرت؟ أما الهزيمة النفسية فهي داء عضال يفتك بقيم الشجاعة والمروءة، ويقتل الطموح ويقزم الآمال، يقصر الآجال ويبعثر الأحلام، ويجعل الأمم كسعى تدور في فلكها فلا هي ميتة فتقبر، ولا هي حية يُرتجى منها، ولما أدرك العدو «الكافر الغازي المحتل المحاصِر» قوة الأمة بإيمانها المعنوي وقيمها المؤيَّدة المسدَّدة بالوحي صوَّب إلى مركز هذه القوة سلاحاً جديداً.. كم هم الناس اليوم مشغولون بقضية تحرير المرأة، قضايا حقوق الإنسان، والإرهاب، والأصولية، والتطرف والحرية والمدنية أقحمت في حياتنا فصرنا نرددها كأننا ببغاوات وكأنها طرقت أسماعنا لأول مرة، وكأنها دخلت قاموسنا العلمي والمعرفي لتوها.. يا حسرتي على غفلتنا. كم من الأكاديميين عندنا يحدِّث طلابه في قاعة الدرس عن خطورة الهزيمة النفسية حين يستعمل معه سلاح المصطلحات كأن يقال له أنت مسلم.. إذن أنت إرهابي أنت متطرف.. أنت متخلف غير مواكب.. إذن عليك أن تلتحق بالمدنية والمعاصرة والحداثة والتطور. وكم من إعلامي وكاتب وصحفي وأديب تراوده نفسه عندما يسألها ما هي هذه الحرية التي تجهدين نفسك في طلبها وتحصيلها؟ أهي حق أم منحة؟ ما ماهيتها وما حدودها وهل لها ضوابط وكوابح شرعية واخلاقية وعرفية ومهنية أم هي سيل جرار يفيض على كل وادٍ ويحمل كل شيء في طريقه إلى مصبه «حاطب ليل» إن الحرية التي أخذت قيمة الزبد فهي مثله «أما الزبد فيذهب جفاء وأمّا ما ينفع الناس فيمكث في الأرض. وكم من سياسي لدينا يعالج نفسه ألاّ تغتر بالديمقراطية التي تتحدث عنها أمريكا وحقوق الإنسان وإدامة السلام والأمن العالمي ومحاربة الإرهاب، منع الانبعاث الحراري والتلوث البيئي، ومحاربة الفقر والأصولية.. ما هي الأصولية التي تخشاها أمريكا والغرب؟ وما هو الإرهاب الذي تجيِّش له أمريكا الجيوش لمطاردته والقضاء عليه؟ المصطلحات نوعان.. هناك مصطلحات تم التواضع عليها باعتبارها مشتركًا إنسانيً نتج عن تجارب بشرية مشتركة تتعلق بالجانب الأكاديمي العلمي بشقيه النظري والتطبيقي مثل المصطلحات التي تطلق في مجال الطب والصيدلة وعلم الوراثة والهندسة والإحصاء والكيمياء والطبيعة والحساب والفك والفضاء، فهذه لا حرب فيها ولا خديعة إلاّ شيء يسير. أمّا القسم الآخر فذو طبيعة خصوصية ثقافية أو حضارية وهو الجانب من المصطلحات الذي يتصل بالعلوم الإنسانية، حيث لكل أمة وشعب ذات وكيان وتاريخ وتراث وقِيم وعادات وأعراف وبيئة وأدب وفنون وهذا النوع من العلوم هو الذي تقوم على ساحته معارك المصطلحات ويكفينا مثلاً أن نشير هنا كيف أن المستشرقين قد تسللوا من هذا الباب فعاثوا فساداً عظيماً في أدبنا وتاريخنا، أعملوا فيه آلات الفسخ والنسخ والمسخ، والتحريف والتصحيف والتحرير، والتشويه والطمس ومُسّ بنجاسة وخساسة. إن الانفتاح الذي أتاحته العولمة في عالمنا اليوم بقدرما أنه قرب الصورة والصوت، وطوى المساحة ويسّر السفر وفتح الفضاء بصورة دهش لها العقل الإنساني وحار، وهذا شيء إيجابي.. إلاّ أنه أيضاً في المقابل جلب معه سيولة الخصوصيات وسهولة المحاكاة، ونزوة الموضات، ومحاولات التذويب والهيمنة التي يسعى إليها أصحاب المشروع الاحتلالي الجديد الذين خرجوا من ديارنا بالباب بعد نضال الشعوب وجهادها واليوم عادوا بالشباك وعلى قطار العولمة عبر فوهة المصطلحات يتسلل رويداً، ليس له دوي المدافع وصرصار الذخائر ولكن السُّم القتّال. إن اوروبا التي عافت الدين وانقلبت عليه هي التي اغتصبت الحقوق وانتهكت الخصوصيات باسم العلم والعدل وخلقت في عالمنا الإسلامي والعربي نسخاً مشوهة وملوثة جينياً نتجت عنها أشباح ترعى الشيوعيين والعلمانيين والقوميين والناصريين والبعثيين هم دعاة وحملة المصطلحات المفخخة التي تعادي الشرائع والأحكام وتصادم الفطرة فهي التي تسوق مفاهيم المصطلحات الوافدة الهدامة التي تمهد إلى إعادة الاحتلال في صورة جديدة، وهي غزو المصطلحات لهدم بنية هوية الأمة، واستهلاك جهودها في معارك جانبية انصرافية تنأى بها عن لُب المعركة ونواتها المركزية إلى الحروف والأطراف، حتى إذا تاهت الأمة وغاب عنها مؤشرها القيمي انقضّت عليها قوى العولمة الشريرة لتفرض عليها أنماطها وخبراتها التاريخية، وقيم ذات طبيعة شاذة لم تعرفها مجتمعات الإسلام!! إن حرب المصطلحات والإرهاب الفكري دست علينا من قبل التعاطي مع الاتفاقيات الدولية مثل سيداو ونيفاشا وأوسلو وكامب ديفد وميثاق روما والتجارة العالمية والتغيُّر المناخي ويطلب بعدها تغيير تشريعاتنا ودساتيرنا لتتفق مع روح هذه الاتفاقيات الوضعية.. يعني يراد لنا.. نحن أمة «الوحي» أن نتبع أمة «الهوى»، ويخلع على هذه الاتفاقيات صفة الإلزامية ومقاومتها ورفضها يعني مصادمة المجتمع الدولي أقصد مصادمة الشيطان والمصادمة تقتضي فرض العقوبات، وهي سيف مسلط فقط على الشعوب الضعيفة. أو التي أرادت لنفسها أن تكون ضعيفة والاّ فالمسلم لا يضعف ولا يستسلم. أما أمريكا والكيان الصهيوني «العدو» فلا يلتزمون بهذه الاتفاقيات، ولذا لم يقدم المجرم شارون ونتنياهو وليبرمان إلى الجنائية الدولية وهم لا شك قد ارتكبوا جرائم حرب ضد الإنسانية، ويحصن الرجل والكلب الأمريكي أمام أي قضاء خارج أمريكا مهما ارتكب من جرائم كما فعل كلنتون وبوش ورامسفيلد وتنعس عيون مغفلين ثم تغمض عن جرائم الإرهابيين الحقيقيين، وتصبغ ألسنتهم المستأجرة شباب الصحوة والمجاهدين بالإرهاب والتطرف، ماذا يضير لو ذهب المجاهدون إلى غزة أو الصومال أو مالي أو أفغانستان أو مينامار لنصرة إخوانهم المستضعفين هناك أليست أمة الإسلام جسدًا واحدًا؟!