اشتق عنوان كتاب الأستاذ محمد أبي القاسم حاج حمد عن «العالمية الإسلامية الثانية» من التسميات التي حفل بها الفكر الأوربي عن الدولية الأولى والدولية الثانية. فالأوروبيون لهم نسخ متناسخة وثورات تقوِّض ما كان راسخاً في مجتمعاتهم وقوى القرار. وعلى دأبهم حاول حاج حمد أن يهز الثوابت العقدية والشرعية الإسلامية ويزلزلها. ولذاك جاء يقول، وهذه هي الفكرة المركزية في كتابه، إن هناك فترتين رئيستين في الدعوة الإسلامية: فترة العالمية الإسلامية الأولى وكانت في عهد الرسول، صلى الله عليه وسلم، وعهد خلفائه الراشدين، كما تتضمن تاريخ العالم الإسلامي كله إلى أوائل شهر يونيو عام 1967م. وفترة العالمية الإسلامية الثانية، التي ابتدأت بالتاريخ الذي سقطت فيه مدينة القدس الشريف، وتفاقمت فيه الظاهرة الإسرائيلية. وقد أسرف المؤلف في نقد العالمية الإسلامية الأولى وانتقاصها، من أجل أن يؤكد أهمية طرحه لفكرة العالمية الإسلامية الثانية، التي يمثل رجالها المتسلحون بالعلوم الإنسانية والاجتماعية المعاصرة، دور الدعاة الإسلاميين الحقيقيين، الذي فشل في تمثيله الدعاة المسلمون الأوائل في عهد العالمية الإسلامية الأولى . فالفترة الأولى، في نظر المؤلف، انطلقت:« من عمق صحراوي ». وأما الثانية فقد انطلقت:« من عمق حضاري، يشمل المنطقة من الخليج إلى المحيط، وهوعمق مجهز بكافة إمكانات الانطلاق العالمي». وفي حين لم تعتمد العالمية الأولى على منهج القرآن الكلي، بل كانت تقع ضمن:« عقلية التجزئة والمتفرقات، فإن العالمية الثانية تستمد من القرآن ولأول مرة نهجه الكلي». وبينما كانت العالمية الأولى مجرد نظرة مبعثرة غير منهجية للقرآن، فإن العالمية الثانية:« تأتي كنظرة منهجية بالدرجة الأولى ترقى من متفرقاته إلى كليته، ومن أجزائه إلى وحدته، ومن سطحه إلى مكنونه». وزعم المؤلف أن علاقة مسلمي العالمية الأولى بالقرآن كانت مسلكية أكثر من كونها منهجية. وادعى أن قبولهم للقرآن كان:«بحكم المبني، الإنشاء اللفظي». بينما يقبل إنسان العالمية الثانية القرآن: «بحكم المعنى، والبناء المنهجي». ترى ما وراء هذه الدعوى العريضة التي يبسطها المؤلف في قلب الكتاب؟! لقد رمى من هذه الدعوى إلى يثبت أن المسلم المعاصر، بما امتلك من الوعي العالي، وأصبح غير ملزم بالتجربة الإسلامية الأولى، التي كانت على عهد الرسول، صلى الله عليه وسلم، وعلى عهد صحابته الكرام، رضوان الله تعالى عنهم. وأكثر من ذلك فقد رأى أن إنسان العالمية الثانية غير ملزم بالنصوص القرآنية، ولا بما احتملته وفرضته من أحكام وتشريعات. وها هو قول المؤلف في هذا الشأن:« بداية العالمية الثانية لا تأتي تجديدًا للعالمية الأولى، ولكنها تأتي عبر الهيمنة على ملك العالمية الأولى بالنقد المنهجي للقرآن». فالمؤلف يعكس المعنى السائد عند الدعاة الإسلاميين، القائلين بأن التجربة الإسلامية في عهد الرسول، صلى الله عليه وسلم، وعهد خلفائه الراشدين، هي التجربة المهيمنة والتي يجب أن ننتقد أوضاعنا المعاصرة قياساً على إيجابياتها ومُثُلها العظيمة، طبقاً لقول الله تعالى:«لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ للَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ». ولكي لا يظن القارئ أني أظلم مؤلف الكتاب، فها هو يشرح بنفسه ما يقصده، حيث يرى أن بداية الانحراف حدثت مباشرة عقب عهد الرسول، صلى الله عليه وسلم:« في سقيفة بني ساعدة هناك البداية ثم أخذ التناقض في الاتساع بين المنهح الإلهي والسلوكية الحضارية.. حتى وصلنا إلى ما نحن فيه». والسبب هو كما يدعي المؤلف أن الصحابة، رضوان الله عليهم:« قد ابتعدوا عن المضمون القرآني لولاية الأمر منهم، ومن بعدها جاءت سلسلة المنازعات، والمسلسل الدموي، والانقسامات الطائفية السرطانية، حتى أصبح العالم الإسلامي اليوم دوائر مغلقة على نفسها». فهو يقول عن حوار عادي، جرى بين الصحابة الكرام، صحح مساره الصديق، رضي الله تعالى عنه، إنه كان بداية اانحراف في الإسلام. وهذا اتهام فظيع، وتجرؤ غير متورّع، على نقد التاريخ الإسلامي، فحتى لو سلّمنا جدلاً بأن ثمة خطأ في الحوار، فالخطأ خصوصاً إذا صحح لا يعني انحرافاً ولا بداية الانحراف، لأن الخطأ طبيعة البشر، والقرآن في كثير من نصوصه المحكمة احتوى على توجيهات وتصحيحات لمسار الجماعة المسلمة، وسلوكياتها في الغزوات، وغير الغزوات، وهذا أمر واضح في القرآن. ولكن ذلك لم يعنِ انحرافاً عن خط الدعوة، ولا تشويها لمضمونها. وقد أعلم رسول الله، صلى الله عليه وسلم، صحابته بأن الله يحب التوابين، وأن البشر إذا لم يخطئوا فإن الله سيستبدل بهم قوماً آخرين، يخطئون فيستغفرون، فيغفر لهم. وأخطر من هذا كله قرار المؤلف أن العالمية الإسلامية الأولى، بقيادة النبي، صلى الله عليه وسلم، وصحابته، والتابعين، وتابعيهم، لم تنجح في تحقيق وعد الله تعالى بنصر الإسلام، وظهوره الكامل على الأديان، تصديقاً لقول الله تعالى:« هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ». وبدلاً من ذلك يعتقد المؤلف أن العالمية الإسلامية الثانية، التي جاءت مطالعها مع الظهور الإسرائيلي الأخير، هي وحدها المنوط بها تحقيق الوعد الذي ورد في الآية الكريمة، ذلك أن دعاة العالمية الثانية ومفكريها، من أمثاله هم من بمُكنتهم وعُدتهم الفكرية المنهجية، استخدام جملة الوعي الإنساني، لتحليل آي القرآن الكريم وتفسيره. ويبدو أن الذي ورّط المؤلف في هذا الزعم الكبير، هو تفسيره المتعسف، شديد السذاجة، للآية الكريمة. فالذي يتصدى لتفسير القرآن الكريم ينبغي أن يكون على فهم تام للغة القرآن، وعلى وعي بأصول التفسير، واقتدار على إدراك العام فيه من الخاص، والمطلق من المقيّد، والمحكم من المتشابه، والجلي من الخفي. ولو رجعنا لتفسير هذه الآية فإن كلمة «كله» ينبغي أن تفهم حسبما وردت في السياق، وهي هنا لا تعني الإطلاق. فقد وردت مادة الكلمة في سياق آخر، عندما تحدث القرآن في قصة بلقيس مع سيدنا سليمان، عليه السلام، وجاء هناك أن بلقيس: «أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ». وواضح من ذلك أنها لم تؤتَ من كل شيء من الأشياء والأعيان المادية، وغير المادية، التي نعرفها، أو لا نعرفها. وإنما أوتيت من كل شيء يتعلّق بالملك، وعظمته، وهيبته، لأن السياق القرآني كان يتحدث عن ذلك. وعندما تورد آية أخرى عاقبة قوم طغاة، تقول عن الريح التي أصابتهم، إنها «تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْءٍ بِأَمْرِ رَبِّهَا». وهذا لا يعني أن الريح قد دمرت كل شيء في الكون، أو كل شيء في المحيط المادي الذي ضم القوم، وإنما تعني أنها دمرتهم وألحقت بما يخصهم دمارًا شديدًا، لأن الآية نفسها تعود وتستثني وتقول: «فَأَصْبَحُوا لا يُرَى إِلَّا مَسَاكِنُهُمْ». واضح أن جهل المؤلف بلغة القرآن الكريم، ودنو ذوقه الأدبي، هو الذي ساقه إلى الفهم الضحل، الذي تعالم به وتبجح. وهو الفهم الذي أغراه لكي يلفق نظرية عليا، مزعومة، لتفسير القرآن الكريم، تفسيرًا عجز عنه المفسرون السابقون. تلكم هي بعض الآراء الشاذة الخطيرة لمحمد ابن القاسم حاج حمد، ولو شئنا استقصاء بقية آرائه لاحتجنا إلى مجال أرحب. ولكن عباراته التي سقناها آنفاً أمثلة ناطقة تشير إلى ما وراءها من المعاني والدلالات الفاسدة. ولقد كان قلقي يشتد وأنا أرى انتشار هذا الكتاب وسط المثقفين الإسلاميين واحتفال الكثيرين منهم به. وقد كان يفترض أن يحدث هذا الكتاب تأثيره الضار في داخل دائرة الإسلام. ولكنه للأسف ألحق آثارًا ضارة ببعض المثقفين الإسلاميين غير المتثبتين. والقارئ الذي يبهره تكديس المعلومات في الكتاب، واصطناع لغة غريبة في التحليل، يظن الدسامة وغزارة المادة، وسلامة المنهج في كتاب حاج حمد هذا، ولكن القارئ الذي يفطن إلى الفكرة المركزية في الكتاب، ثم يقيس إليها أفكار الكتاب الجانبية، وأكداس المعلومات المتناثرة المتوفرة فيه، فسرعان ما تتبين له هشاشة المنطق، وتتراءى له المعلومات والآراء ألفافاً من التناقضات، والتلفيقات، والمصادمات لثوابت العقيدة والشريعة.