قراءات قصصية ورؤى حولها رصد / وفاء طه تواصلت ورشة القراءات القصصية في منتدى السرد والنقد بالمستشارية الثقافية الايرانية وتقديم الرؤى حولها في مستهل العام الجديد والدورة الجديدة للمنتدى بمعية عدد من الكتاب والنقاد على رأسهم الروائية زينب بليل ، وقد ناقش المنتدى عدد من القصص لكتاب شباب منهم الكاتب ابوبكر الصديق المهدي والكاتبة عفراء سعد ابراهيم والكاتبة هدى أحمد مالك ابتدرت النقاش الأستاذة زينب بليل في قصة لا ترموني بحجر التي قرأتها عفراء قائلة :- القصة فيها لغة جميلة ، وعمل منظم لكن لا يوجد حدث بالقصة ، يوجد بها شخص يتداعى ، يفترض في رأي أن تعطي هذه الشخصية حدث يبرر ما قامت به من أعمال كالجوع مثلاً او غيره ، الأحداث كانت مبرر لخروجها من البيت ، لكن القصة كانت في مجملها طلب للرحمة وخوف من العذاب هنا يصبح محتوى القصة مجرد كلام لا غير ، لا يمت للقص بشئ ... أتفق الأستاذ الطاهر علي أحمد مع استاذة زينب في أن لغة القصة جاذبة وجميلة وعالية ثم أضاف ان القصة بها تشبيهات جميلة ، حيث شبهت شارع الأسفلت الطويل بالصبر ، والعري يكسو الانسان ، علي الرغم من حقيقة الانسان لا يكسوه العري لكنه تشبيه جميل ، وقد أعجبت بهذه القصة وهي قصة تأملية . الأستاذ القذافي يوسف أضاف أن أكثر ما يلفت نظر المتلقي في هذا النص هو اللغة فلقتها جيدة جداً ، وعندها مقدرة على الوصف ، اذا اتفقنا على ان الصوت المسموع هو صوت البطل وبالتالي هو أكثر من يعلم جملة ما يحدث في هذا النص ، سأبدا حديثي من السؤال الذي طرحه البطل لا أعلم اين سيكون مصيري اذا كان محدثنا لا يعلم نحن بالتالي سنتوه ، اتفق مع زينب في أن الكتابة أشبه بالمناجاة والدعاء في بعض مقاطعها وبالذات المقطع الثاني ، وكذلك لم تحدثنا البطلة بالظروف المحيطة بها ، ايضاً الكاتبة لها شاعريه عالية تفيد نص قصصي نشط وقصير كهذا النص ، كذلك آخذ عليها تضجرها من نفسها في بعض المقاطع رغم ان روحها كانت جيّدة ، المدينة في النص لا اعرف هل هي المحيط بالبطلة كان ينبغي لنا أن نعرف لأن المدينة هي ليست كائناً وحشياً يفترس اي زول ... الأنور محمد صالح أضاف الانتباهات التي ذكرها القذافي صحيحة ، رغم انها كتابة ولكن أقول عندها مشكلة في التجنيس ، وهي واحدة من المشاكل العامة في السرد ، بهذه المشكلة أضعفت من الجسد ومن تناسب كمياء الجسد القصصي ، اما بالنسبة لرؤية القصة ووجهة النظر التي استخدمتها في الحكي ، حاولت أن تستخدم التداعي لكن في وسط القصة لا تحس بأنه تداعي ، تحس انه ما بين التداعي الحر وتقنية الكتابة الفكرية الحديثة فيها تفكيك للمجتمع ، وجهة النظر كانت صحيحة لكنها لم تحدد موقف نهائي فيها ، كذلك عندها اشكال في الرؤية تعاملت الكاتبة مع الخطأ بشكل شفاف ما يحس به القارئ انها ارادت ان تشجب تسليع الجسد الأنثوي تحت كل الظروف ولكن اللغة المستخدمة في ذات ا لوقت متصالحة جدا ، الرؤية هنا الى حد كبير خدمت ضد الفكرة الأساسية ... الأستاذ محمد الجيلاني علق على النص الثاني لعفراء بعنوان انتظار فقال : هذا النص يدخلنا في الحديث عن مناهج الكتابة وكيف يستطيع الكاتب تحويل وقائع من حكي عادي لقصة فيها مستوى من الصراع والتحولات على الأشخاص والأفكار والقيّم وبالتالي يرصد اللحظه من خلال فعله ، في البداية لاحظت أن علاقة الوصف والسرد غير منضبطة بشكل كامل ، وأقصد من الوصف الأشخاص الموجودين في النص والأماكن والأفكار أفقياً لم توضحها الكاتبة بشكل جيّد ، وهي صفات تساعد في توضيح الشخصية التي ستنقلنا في السرد ، وقد فهمت انها استخدمت منهج لمس اللاوعي ، تراكم احداث باستخدامها للاوعي عند شخصيتها ، اجمالاً يمكن ان نقول تحققت متعة لكن في كل لحظة كان ينبغي تكثيف اللاوعي الابتدائي في القصة ، اما بالنسبة للحدث فهل هو فنتازي يحتاج مسطول لمعالجته ، هل هو من التعقيد والخيال ولا يستطيع الانسان العادي على حله ، يمكن أن نقول بالنقد الثقافي أن هذا النص واقع ضمن سياق تاريخ النصوصية الاجتماعية لمجتمعنا الذي يرى ان النكتة والابداع صفة ملازمة للمساطيل وكذا وهذا يدلل على ان النص استخدم شخصية مركبة وجاهزة ، النسبة والتناسب في استخدام المنهج جزءاً من منطقية الحكي ، ما اود ان أصل اليه ان عفراء ثقافتها أوسع من الكتابة ...نحن امام كاتبة لكن ينبغي ان تفرز أدواتها واستلافاتها وغير ذلك . أستاذة زينب علقت على قصة ابوبكر قائلة : - ذات الحكم الذي قلته من قبل في قصة عفراء تداعي استرسال في كلام جميل ولا توجد أحداث ، اذا وجدت اي فكرة وشكلت حدث لكانت هذه القصة غير عادية ، الأنور أضاف لرأي زينب بليل أن الكتابة بالنسبة لعرض قصة ابوبكر استخدم فيه اللغة العربية الفصحى ، واقول انه من المشاكل اذا كتب الكاتب باللغة الفصيحة لابد ان يلتزم بها اما اذا أرد ان يجمع ما بين الاثنين لابد ان تصنع بالقياس المقبول ، هذه القصة في رأي فضاء سردي جيّد يوحي بكاتب وملتقط فكرة لكن ما تبقى من ذلك من الصعوبة التعامل معه كقصة ...اما بالنسبة لقصة الأستاذة هدى رأت الأستاذة زينب أن بها شخصيات محددة ، من البداية البحث عن الوظيفة في القصة فعل العمل فعل...الخ ، القصة فيها حدث والأهم الشخصيات فيها يمكن أن تثير جدل ونقاش ! وقصة لها نهايتها وبدايتها وحبكتها ... الأنور أضاف أن قصة هدى هذه تعتبر خطوة ممتازة جداً في الكتابة ، رغم استخدامها لمنهج بسيط جداً في القصة وهي ملكة لا تتوفر لكل الكتاب ، المخيال والتذكر والتصعيد والحدث والدراما كان عندها ممتاز لكن توجد عندها مشكلة المؤلف ، عندما يتورط في الوسط يحل المشكلة على مستوى آخر ، هذه القصة نقلتنا الى نقاش حول رؤية الكتابة ، الخطاب الذي تخدمه القصة خلق مشكلة في الخاتمة جعلت الأستاذ الجيلاني يتساءل حولها وهو سؤال موضوعي ، العمل الابداعي فضاء يصنعه الكاتب ، لذلك ينبغي أن يعمل فيه الكاتب بوعي . قصة قصيرة الأكفان والبذور محمد هارون عمر تكتم كثيرون على النبأ، ورغم ذلك استطار وتبرعم وتشظى، القاصي والداني ينتظر الأمر على أحر من الجمر الأمل يجوس بجنان البائس الثرثار، حاول وأد النبأ الغض في مهده لكيلا ينداح ولكن ثرثرته كانت تسبح عكس التيار، ومن حيث يدري ولا يدري جند الناس جيشهم بث فيهم روح الشره وآلة البؤس تسحق الكثيرين.. سجلوا اسمي وابنتي وأولادي نحن عشرة.. وعبد الفتاح يعدهم بأن الامر أكبر وأعظم ولا داعي للقلق، انه متشائم من كثرة الناس والحاحهم رغم تظاهره بالسرور والحبور وهو يطمئنهم.. لآت ساعة انتظار.. العشرات يمورون اكتظ بيت الرجل اكتظاظ السوق، تنفتح ثغرة في جدار الأمل لابد من الولوج. هرج ومرج وضوضاء. طال الانتظار ملّ الناس الاعتكاف في صياصي الصبر. البون شاسع ما بين الواقع والطموح، الكل يمني نفسه بفريسة سهلة، بصيد ثمين وخاصة ان الهماز النمام المشاء يحيك مؤامرة للاستئثار بما تجود به اللحظة الفارقة في متاهات التفاؤل. أنا زعيمهم سلمني. انا الاحرص، سيسلمني، سأتصرف بما يحلو لي، لن يقف في وجهي أي كانت من كان، ألم آتي بالخبر؟ حلم عبد الفتاح ويا لها من احلام اليقظة! هو يرتدي أبهى ثيابه. كالطاؤوس يختال جيئة وذهابا، سيزهو سيجوس بهضاب التعالي، هو صاحب القدح المعلى، هو الذي اختطف النبأ من المدينة هو الذي عرّف السيد بالضاحية حيث سجلها، هو الذي ضرب الموعد في بيته ليكون له الثناء والاطراء، لولاك لما كان هذا النعيم المقيم انت نعم المواطن الذي يعرف رجال المدن الاقوياء الاشداء الكرماء من فتئ يحلم، سيستأسد سيتنمر بعد مجيء الوجيه الطيب الثري اتصل به بالهاتف، اطمأن بأن السيارة المطهمة قاب قوسين أو أدنى، الكل يتوق ويشرئب ويصبو في لهفة لمقابلة الرجل الكريم الذي آل على نفسه أن يشرّف الضاحية الغارقة في دثارات البؤس والاملاق السرمدي هاهي الأوعية، الأكياس، السلال، القفاف. فجأة أومض عبد الفتاح ثم قهقه في خبث وثعلبية ثم دمدم: - اصطفوا قفوا صافحوا بأدب تهذبوا ها هو عبد المحسن يطل الرجل يوجه السيارة ذات اليمين وذات الشمال. اعطف أمامك خلفك القبس الساطع يتمدد، يتخثر، يتبخر، زمجرة السيارة تتماوج على الأذن المرهفة، اصطف الرجال، ها هو الوجيه يترجل وخلفه عاملان حقيران، انزلا ثلاث حقائب كبيرة، بالضخامة الهدايا والهبات، وقبل ان تهدأ عاصفة الترحيب أمر عامليه بفتح الشنط، ثم اردف قائلاً: - الكل يأخذ حسب حاجته بغير حساب! طلقوا الدنيا. فرح الناس وتهافتوا لاستلام أكبر حصة من الثياب والجلابيب، صرخ أولهم الذي هجم على الشنطة وهو يسقط على الأرض القماش الأبيض في ذعر. - أكفان؟! لماذا لم تحضر لنا بذوراً.. اختلط الحابل بالنابل تقهقهر الناس وهم يرددون: أكفان! لعنة الله عليك.. لماذا لم تحضر البذور؟!. رؤية للطيب صالح: المدنيَّة الحديثة مؤقتة رغم الصلابة التي فيها!! عصام محفوظ ٭ اذا اعتبر بحق ان السودان اكثر من أي بلد آخر هو حلقة الوصل الحقيقية بين حضارتي الغرب وافريقيا العربية بسبب تجسيدها في وضوح صارخ هذا اللقاء بينهما، فإن الثقافة السودانية النموذجية للتعبير تتمثل أكثر ما تتمثل في أدب الروائي الطيب صالح. ولم يكن الطيب صالح مغبوناً أبداً من حيث الاهتمام العربي به، منذ نشرت له مجلة «حوار» في بيروت في اوائل الستينات «رواية موسم الهجرة الى الشمال» التي هى التعبير النموذجي عن الادب السوداني الحديث في افظع صور التوتر بين الحضارتين الغربية من جهة والمشرقية من جهة اخرى، والعربية خصوصاً والسودانية بالتحديد. ولم يتوقف أدب الطيب عند موسم الهجرة، بل نشرت له بيروت روايات اخرى، منها ثنائية بندر شاه ومجموعة قصص و «عرس الزين» التي أعد عنها المخرج الكويتي خالد صديق شريطاً سينمائياً نال الجائزة الاولى في مهرجان السينما العربية في باريس. وتوزعت حياة الطيب بين عالمين: ريف السودان والعاصمة الانجليزية حيث عمل لسنوات. وعلى الرغم من أن ظروفاً كهذه يمكن أن تؤدي كما هى الحال غالباً الى انزلاق الكاتب او الفنان في سهولة التقليد تحت ضغط الانبهار بالجديد، أو الى نقيض ذلك أى الارتداد بعناد الى واقع الكاتب وبيئته المحلية، فقد عرف الطيب كيف يدخل الحضارة الجديدة، وهو يعي بعنف هذا الدخول. وبتعبير آخر تميز أدب الطيب بأنه تأرجح مستمر: المقارنة الداخلية بين الصورتين الأصليتين، من دون أن يزيف صورة لحساب أخرى. وربما سبقت الطيب في التعبير عن الصدام بين الحضارتين تجارب عربية عدة ابتداءً من «عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم وانتهاءً بأحدث عمل روائي مغربي، مروراً برواية «الحي اللاتيني» لسهيل ادريس وغيرها، لكنها كلها لقاءات تتناول أسلوب التعبير والرؤية، وتحكي مغامرة رجل شرقي في حضارة عربية، أى أنها في أحسن حال تأملات شرقية في الحضارة الغربية من خلال اندهاش الشرقي بالغرب، لكن الطيب خصوصاً في اول اعماله واهمها (موسم الهجرة) فعل النقيض، أى انه اختار النموذج الشرقي الذي يعود الى عالمه بعد مغامرة في العالم الغربي، فتدور الأحداث في عالمه هو وواقعه وبيئته، وبالتالي يتحدد الصراع الطبقي الذي لا يعود يتوقف، كما في الاعمال السابقة للطيب، عند حدود التفرج والاندهاش والتعبير عنهما، سواء بالرضاء او الاستنكار، وانها تدخل أعماق هذه النفس في محاولة موازنتها بين العالمين، أو الأصح بين الزمانين: بين الماضي والحاضر، لأن الحضارتين الشرقيةوالغربية لا تسيران على خطين مختلفين كما يتوهم البعض، وإنما هما في حالين زمنيتين مختلفتين، الاولى تراوح مكانها ولا تدري اتتابع خطها السابق أم تلحق بالاخرى التي تسرع الخطى في طريق قد يكون خاطئاً أصلاً، وهذا التغيير إن لم يكن ينطبق على كل أجزاء الحضارة الشرقية، فهو بالتأكيد ينطبق على الواقع الذي ينطلق فيه الحدث والإطار الذي يحدد أحداث روايته وشخوصها. وهذا المكان هو عادة قرية في الريف السوداني (ود حامد) أو غيرها، يكاد لا يصل اليها ضجيج العالم الخارجي بكل ما نسميه من تقدم تكنولوجي ورؤية فلسفية مادية إلا نادراً، وهو بالتالي المكان المثالي للتعبير عن تصادم الحاضر والماضي، حتى لا نقول الحضارتين الغربيةوالشرقية، خصوصاً أن الحضارات كلها تتجه لتصب في بحر واحد هو العالمية الحديثة بكل ما تحمل من تناقضات في صراع أو في جمود. وإذا كان يجوز لنا بعد، في عصر التفسيرات الايديولوجية أن نستخدم لفظة الروح، فنقول إن أدب الطيب صالح هو في تحديد عام التعبير عن صراع الروح الشرقية بكل مميزاتها وتخلقها والروح الغربية الحديثة. وإذا كنا مضطرين إلى تحديد أسلوب الطيب فنقول أنه أدب السيرة الذاتية عندما تكون تأملاً في حياة الآخرين، وانعكاس ذلك على حياة الشخص موضوع السيرة. وتبدو هذه الازدواجية أكثر تركيزاً في روايته الاولى، حيث ينقسم الكاتب شخصيتين: الراوي ومصطفى سعيد، وكلاهما يعيشان حياتين منفصلتين، إلا أنهما يقتربان من التوحد في النهاية شيئاً فشيئاً، وذلك بعد دخول الراوي غرفة مصطفى السرية. حيث يجد نفسه يقف أمام نفسه وجهاً لوجه، إنها المرآة الفاضحة، المقصودة الفضح كما هو اسلوب الطيب عموماً، حيث يترك للقارئ حرية أكبر في الكشف والتفسير، والازدواجية الأصيلة التي تحدثنا عنها، والتي ليس ادبه كله سوى صدق التعبير عنها. ويبلغ التعبير عن حدة هذا الصراع الداخلي الذروة مع توغل الكاتب في محاولة السيطرة على الشخصيتين حتى يكاد الانتحار يكون حلاً في الاعتراف بعدم القدرة على السيطرة عليهما، وبالتالي عدم التوحد، لكنه الحل الذي ينقلب في الضفة الاخرى من اليأس الى مرحلة جديدة من الوعي، فإذا الراوى الذي كاد يتمثل نهاية مصطفى سعيد فيستسلم لقوى الخير الهدامة، يقرر اختيار الحياة التي صار يعيها فهماً. وكان هذا الوعي مؤلماً كألم المخاض قبل الولادة، فلا يلبث أن يصبح مثل ممثل هزلي يعرف دوره خير معرفة (النجدة النجدة)، انها حكاية الراوي وبطله في محاولة صريحة للتوحد عبثاً في شخصية واحدة، انها المأساة المستمرة ليس بين اختلاف المكانين بل بين اختلاف زمنين في مكان واحد. ومنذ البداية كان لهذا التميز في أدب الطيب وقعه الفريد في الأدب العربي الحديث، ولا يضير كون هذا الادب لم يخضع مثل أدب الروائيين العرب المعروفين للنقد. ربما لأن الطيب يحاول الإفلات من هذا المصير، تاركاً تقييمه للقارئ العربي وحده، ويمكن القول ان ادب الطيب دخل ذهن القارئ العربي بشغف، حتى وإن غمض على القارئ أسباب هذا الدخول العفوي، بل يمكن القول إنه بسبب هذا الغموض لا تدخل الشخصيات في الذهن لتستقر وترتاح، بل لتستمر في طرح التساؤلات القلقة في ما يخص هذه الشخصيات الفنية التي تظهر فجأة وتغيب فجأة، تاركة في بحيرة القرية السودانية الهادئة النفس تموجات لا تنتهي. هكذا حدث مع مصطفى سعيد في «موسم الهجرة»، وهكذا حدث في «ضو البيت» حيث يخرج رجل من النهر كأنه شيطان فقد ذاكرته، فلا يعرف من أين أتى يخض وتيرة الزمن في قرية ود حامد خمس سنوات ثم يختفي في الماء الذي خرج منه. وقد يحاول البعض الانخداع بكون الطيب يقصد في النهاية تقديم صورة واقعية لعالمه بسبب هذا التفصيل الدقيق للحياة البدائية في القرية السودانية، فالطيب حتى وهو يستغرق في مثل هذا الوصف الذي شاهدناه في فيلم «عرس الزين» مجسماً، يقصد اولاً وأخيراً محاولة الكشف عما هو وراء هذه الصور الواقعية، من روحانية تغلف كل شيء، فقد اختار بطله ممن يطلقون عليه (مجنون القرية) إلا أن اختيار الطيب لهذه الشخصية لم يتم لكون الزين مادة قصصية غنية التصوير، وإنما لأن جنون الزين هذا المبروك ومتصوف يعرفونه باسم (الحنين) ليعيد الى الحاضر ذلك الحضور الماضي لعلاقة التصوف بما هو فارق للمألوف والعادة. حتى أن الزين يستخدم ألفاظاً هى ألفاظ المتصوفين نفسها في التعبير مثلاً عن غرامه حين يصرخ (أنا مقتول) إنه كلام العشق الإلهي عندما يتوجه العاشق إلى الله. واعترف الطيب في حديث قديم معي بأن المدنية الحديثة مؤقتة على رغم مظاهر الصلابة فيها، أليس هذا التصريح كافياً لتأكيد الحنين الى الماضي، أو الحاضر الذي يصير ماضياً باستمرار او العكس، أي الماضي المستمر في الحاضر، وهو المقدمة «إنها احدوثة عن كون الأب ضحية أبيه وابنه معاً» أى أن هذا الحاضر محكوم بالماضي والمستقبل معاً، وبين الجد والحفيد تكبر مأساة الحاضر المأسور حتى درجة التضحية بالنفس على مذبح صراع لا ينتهي. وإذا جاز لنا القول إن رؤية الطيب صالح ذات صلة بالوجودية التي غزت الفكر العربي في فترة سابقة، فإنها مضموناً وشكلاً تكاد تصل إلى رؤية ليست مختلفة فحسب، بل مناقضة يبقي منها ما أراد الطيب أن يبقى صورة جميلة لعالم ينهار لمصلحة صورة جديدة ليست البديل للمطلوب، وليس ثمة حل غير ترك العنان للمخيلة في إيجاد صورة ثالثة تعرف كيف تحفظ للمغامرة الإنسانية ثقلها الروحي والمادي. التجاني بين الخلوة والمعهد العلمي بروفيسور محمد الحسن فضل المولى تفضي بنا محاولة الوقوف على الروافد الثقافية التي امدّت التجاني يوسف بشير (1912 - 1937م) بالحصيلة التي استند عليها وانطلق منها فيما نظم وكتب الى القول بعصاميته الثقافية او (العلمية) كما اطلق عليها الدكتور عبدالمجيد عابدين (1) ذلك ان التجاني لم تتح له الظروف ان يواصل تعليمه على النحو الطبيعي الذي سارت عليه الاكثرية من انداده واقرانه، فلم يجد امامه سوى ان يطرق الباب العريض: باب الاطلاع الفردي الواسع، يلمّ من خلاله بنتاج النهضة الادبية الحديثة، الحديثة، وخاصة تياراتها المجددة في مصر والشام والمهجر، وبعدد كبير من روائع الاقدمين الخالدة شعرا ونثرا، كما يقف مقودا بنزعته الخاصة على بعض من تراث الصوفية الاوائل مطلعا ومستلهما. على ان هذه (العصامية العلمية) لم تكن مطلقة بطبيعة الحال، اذ هي مبنية على اساس تعليمي لا يمكن الغض من شأنه على ضعفه، فعلى لبناته المتواضعة ارتفع هرمه الثقافي واستطال، وبهدي من نور شموعه الصغيرة سار حتى وصل الى ما وصل اليه من آفاق واعماق .. وقد كانت (الخلوة) بالنسبة اليه بداية جدّ طبيعة ، فهي المقدمة اللازمة للتعليم - وقد تكون بدايته ومنتهاه - بالنسبة للجيل الذي عاش فيه، اضافة الى انهّ من اسرة عُرفت من قديم بالاسهام في هذا النوع من التعليم الشعبي، ومن ثم فلا غرابة ان يجد نفسه في طفولته الباكرة ممسكا باللوح والقلم في خلوة عمه الشيخ محمد القاضي، الكتيابي بامدرمان. وفي هذه الخلوة بدأ التجاني - شأن كل طفل - تربته الاولى خارج نطاق الاسرة الضيّق الحميم، وانتقل بدخوله اليها من عالم اللعب والطلاقة والعبث الطفولي الحر، الى عالم جديد مغاير، يشوبه الجد ويشيع فيه النظام، وتقيّد فيه الرغبات والحركات. وهي مفارقة لا يتقبّلها الطفل بسهولة، بل لعلّه لا يتقبّلها الا بمرارة غامرة، وقلق يزلزل كيانه الصغير، ومن هنا كان التجاني صادقا كل الصدق حينما صوّر هذه التجربة فيما بعد على نحو يجعلك تشعر معه بأحاسيس الاسى والسخط والحنق التي كانت تشيع في نفسه حينما كان يستيقظ كل صباح وفي خياله شبح (الخلوة) البغيض، ثم (يُدّفع) رجليه في برم نحو سجنه الحديد: هبّ من نومه يدغدغ عينيه ٭٭ مشيحا بوجهه في الصباح ساخطا يلعن السماء وما في الأ ٭٭رض من عالم ومن اشباح ضقت نفسه وضاقت به الحي ٭٭ لة واهتاجه بغيض الرواح طوّفت به الظلال وقد نُش ٭٭ رن في جلوة القرى والبطاح ومشى بارما يدفع رجلي ٭٭ ه ويبكي بقلبه الملتاح على آن التجاني لم يخلص قصيدته لهذه التجربة وحدها، ولو فعل لجاءت قصيدته اكثر تماسكا من الوجهتين الموضوعية، والشعورية ولا نتفى من ثم مثل هذا التناقض الذي تواجهه في قوله بعد المقدمة التي سقناها، وبعد تصويره الرائع لنظرته الخفية المستبطنة لشيخه الجبار، وقد (نمت عما به من جراح): حبذا خلوة الصبي ومرحى ٭٭ بالصبا الغض من ليال وضاح فليس في الخلوة حسبما صور ما يجعلها حبيبة الى نفسه وانما هو يحن في واقع الامر ،الى صباه الغض وطفولته الطليقة، الحرة بعيدا عن الخلوة فشيخها البار وجوها الكئيب وقد تأكد كآبة هذا الجو بتصويره لصبية الخلوة وقد هوّمت نفوسهم وظلت مع ذلك (مركوزة على الالواح)، فاذا ما لفّها النعاس وساقها الى عوالمه الرحبة الندية، دوّى في ارجاء المكان صوت شيخهم الجبار وكأنه الرعد القاصف: فاستضافت وهيمت بعض اشياء ٭٭ء وعادت وعاد قصف الرياحة ومن عجب انه يختم قصيدته بعد هذه الصورة الصادقة كما يناقضها شعوريا فيقول: صوت للصبا الاغرّ موشا ٭٭ة بأحلامه وضوء الصباح يدفق البشر في مفاتن دنياها ٭٭ ويفترّ عن سنا وضاح على اننا نحسب ان التجاني كان على وعي بالخلط الشعوري الذي لم يستطع تفاديه في قصيدته هذه ، بين سخطه على الخلوة، وبين حنينه على هد صباه يبشره ومفاتنه وانطلاقة - وقد صور هذا الحنين الدافق في كثير من قصائده - ومن هنا فقد جعل للقصيدة عنوانا جانبيا الى جانب عنوانها الرئيسي (الخلوة) - وهو (من صور الصبا)(2) وايا ما كان الامر فان التجاني لم يكن سعيدا في الحقبة التي قضاها (حوارا) في الخلوة ، ولعله حفظ فيها شيئا من القرآن الكريم وألم الى جانب ذلك بمباديء الكتابة والخط كما هو منتظر من مثله، ثم خطا خطوة ثانية في مسيرته التعليمية فالتحق بالمعهد العلمي بامدرمان. وقد استمر التجاني طالبا بهذا المعهد لخمس سنوات ، قضى الاربع الاولى منها بالمرحلة الاولية التي نال شهادتها سنة 1930م، بتفوق يشي بحسن استعداده وانكبابه على العلم، اذ كان ترتيبه فيها العاشر من اثنين وخمسين طالبا (3) ، ثم انتقل الى السنة الخامسة التي لم يُقدر له اكمالها، فقد انتهت صلته بالمعهد قبل ان يجلس لامتحان النقل للسنة السادسة، وبانتهاء صلته بالمعهد انتهت صلته بالتعليم النظامي خاصة وقد وئد تطلعه لاكمال دراسته بمصر وقد صاغه حنينا عذبا في بعض ما نظم.. ولم تكن تجربة التجاني التعليمية الثانية بالمعهد العلمي باسعد من تربته مع الخلوة ، فقد دخل من الناحية العلمية في متاهات النحو بصورته التقليدية التي اشتهر بها المعهد ، وعانى من ذلك معاناة ظلت حية في وجدانه حتى سجلها في قوله: ولقيت من عنت (الزيود) مشاكلا ٭٭ وبكيت من (عمرو) ومن اعرابه والذي يقرأ ما سجله الاستاذ محمد محمد علي - رحمه الله - وهو من الجيل الذي تلى جيل التجاني باسلوبه الساخر الرشيق ، عن تجربته مع النحو على اول عهده بالمعهد العلمي، وماذاقه من مرائر الطريقة العقيمة التي كان يتبعها بعض الشيوخ في تدريس هذه المادة، يستطيع ان يقف على شيء من هذا(العنت)، و(البكاء) اللذين يشير اليهما التجاني. ثم كانت (اليقظة العقلية) المبكرة التي وجد التجاني نفسه في غمارها اثر انكبابه على قراءة ما تمكن من الوصول اليه من آثار ادبية وشعرية وصوفية - عربية ومترجمة - ولعل تفتح مواهبه الشعرية قد سبق هذه اليقظة على نحو ما، واحس صاحبنا نتيجة لذلك بنوع من الامتياز او التميز الذي يدل به على اقرانه.. واستشعرت نفسه شيئا من الراحة والرضا، ولكنه رضا جد محدود، وراحة لا تلبث ان تعصف بها اعاصير القل التي لازمت هذه اليقظة ، مضافا اليها ما جوبه به في المجتمع الطلابي من حسد ومضادة اثارتهما موهبته من ناحية، وما كان يثيره من غريب الفكرة والرأي من ناحية اخرى.. وسواء اكان التجاني قد فُصل من المعهد بسبب ماتفوّه به في معرض مفاضلته بين شعر شوقي - وقد كان به جدّ معجباً - وشعر حافظ ابراهيم، على نحو ما هو شائع، ام انه ترك المعهد من تلقاء نفسه على ما ذهب اليه بعض الدارسين - فرارا بنفسه من معارك لا تحمد مغبتها، او لضيق احوال اسرته المعيشية ، فان الذي لا يتطرق اليه الشك هو انه تأذى غاية التأذي بالاتهامات التي اثيرت حوله من قبل بعض زملائه ، بحيث افرد لها سبعة ابيات من قصيدته التي تغنى فيها بالمعهد العلمي وفاء وعرفانا: هو معهدي ولئن حفظت صنيعه ٭٭ فأنا ابن سرحته الذي غنى به فأعيذ ناشئة التُقى ان يرجفوا ٭٭ بفتىً يمتّ اليه في أحسابه ما زلت اُكبر في الشباب واغتدي ٭٭ وأروح بين بخٍ ويا مرحى به حتى رُميت ولستُّ اولى كوكب ٭٭ نفث الزمان عليه فضل شبابه قالوا وأرجفت النفوس وأوجفت ٭٭ هلعاً وهاج وماج قِسورَ غابه كفر ابن يوسف من شقيّ واعتدى ٭٭ وبغى .. ولست بعابيءٍ او آبه ولو ان فوق الموت من مُتلّمس ٭٭ للمرء مدّ اليّ من اسبابه (2) ولئن كنّا نراه يُثبت عدم اكتراثه بما رُمي به في قوله (ولست بعابيء او آبه) فإن حقيقة تأثره تظهر جلية في ترجيهّ لناشئة المعهد ان يكفّوا عنه أراجيفهم واتهاماتهم، كما ان روح البيت الرابع تشي بالمرارة التي احسّ بها ازاء هذه الاتهامات. وبعد فان التجاني ظل برغم كل شيء - وفيّاً للمعهد، مقرا بفضله عليه، متغنيا بأمجاده ، بل لقد شارك في احتفال اقامه المعهد سنة 1931م، بقصيدة لم يتضمنها ديوانه المنشور (إشراقة) ومطلعها: يا إله الهدى وربّ الشماء ٭٭ مُعيد الظلام إثر الضياء (4) وفي ذلك كله ما يشي بسماحة نفسه، وبأنه كان مفطورا على الوفاء، رحمه الله. هوامش: (1) مقدمة (إشراقة) - ط ع : ص8 (2) إشراقة (ط4) : ص56 (3) مما توصّل اليه الاستاذ جاد الله النذير في رسالته المخطوطة(التجاني يوسف بشير: عصره وحياته وشعره):ص23 (4) نُشرت بجريدة (الثورة) :1961/11/20م. وهج المخاض... شعر: حسب الباري سليمان 1- رفي بأجنحة السؤال الصمتُ اخفى ضفافك القزحية المرقى، وأوصد باب ريحك حين هبّ ربيعك العذري في بهو المآل. هُزيّ ضريح الغيب يا وهج المدي فالليل أطفأ للصروح جلالها .. وبهاءها .. فغشت مرايا الأفق.. وأنطفأت بخاصرة الصدى والفجرُ أحرق حقلَ صبوته الردى فجفى رحيقُ البرق سارية الخيال. هزي إليك بجزع نخلتك البتول فلقد سرى محلُ السنين المرّ واستشرى بأوصال المروج وتكلست سُبلُ المخاض، جفتْها نافلة المروج جمحت خيولُ النور وهي تشقُ نفقَ المستحيلْ ويكاد نبضُ الوقت يصدأُ في مزامير الصهيل في كل يوم تُصن اللحظاتُ.. تكبو في فجاج الحلم تنتظرُ الدليل بلا دليل هزّي اليك بجزع نخلتكِ البتولْ حتى يورّق سرُ أحزانكِ أوتار النشيدْ فالليل يضربُ في الديار خيامه ويدقُ طبل اليأسِ يستجدي الفتات من اللئام فتذوبُ أنفاسُ البراءةِ.. والطهارةِ.. والوئامْ.. هُزّي إليك بجزع نخلتك البتول فالفجرُ يصهلُ في فجاج الأرضِ ينتظر القبول هذا لقاحُ الشعر يملأ خاطر المعنى يفضّ بكارة الكلمات يستشري بأشرعة الفضول حاديك ينشدُ.. لا تملّ الشجو أوتارُ المآب ما عاد فارسك المُجنّح في هجير الوقت ينتظر السراب ما عاد يغزلُ من نواميس التفلسف والتعسف والتأسف حسنك الصادي.. ومئزرك المهاب. كم دق ابواب الطلول وعناكب الاشفاق تربضُ في القباب تُديرُ ساقية الأفول كم ظل يحتملُ الحتيت إليك يقتحم الصراع عليك يبحث عن رسول إنا نسحك من وريد العمر عرق الصبر وأوردة السحاب وإليك نفرث في ضمير الوعد شرف الانتماء حتى تطل مشارف اللقيا على افق الأياب إنا حملناك على الاعناق بالاشواق عمدّناك افئدة الشباب. هذا زمانك.. من مسام الشعر أخرجي.. أيقظي مزمارك الأبدي بمحراب النداء فنفنيكُ هُتافاً: سافراً.. ومخاتلا وبملح الارض نرويكِ وساريةِ السماء