احتفلت منظمة الأممالمتحدة للتربية والثقافة والعلوم «اليونسكو» يوم الثلاثاء الماضي باليوم العالمي للغة العربية في احتفائيته الأولى، بعد أن تم اعتماد المنظمة الأممية للثامن عشر من ديسمبر من كل عام يوماً مخصصاً للاحتفال باللغة العربية، بوصفها إحدى اللغات الست المعتمدة داخل المنظمة، حيث تم تخصيص يوم عالمي لكل لغة من هذه اللغات للاحتفاء والتعريف بها وبثقافتها وتاريخها على نطاق العالم. وقرر المجلس التنفيذي لليونسكو في جلسته في شهر أكتوبر الماضي، تخصيص الثامن عشر من ديسمبر يوماً للغة العربية في هذا الإطار، وقد تم اختيار هذا التأريخ بالذات لأنه يوافق اليوم الذي قررت فيه الأممالمتحدة في عام ثلاثة وسبعين من القرن الماضي، إدخال اللغة العربية ضمن اللغات الرسمية المستخدمة في المنظمة ولجانها الرئيسية. ومما يجدر ذكره أن القرار هذا قد جاء بعد سلسلة من الجهود التي بُذلت في الخمسينات من الألفية المنصرمة، فقد أُجيز كبداية تحرير ترجمة عربية للوثائق ذات الطبيعة السياسية والقانونية المتعلقة بالمنطقة العربية، ثم بعد جهود دبلوماسية قادتها الدول العربية، تم اعتماد اللغة العربية كلغة شفهية خلال انعقاد دورات الجمعية العامة في بداية السبعينات، وصولاً إلى ديسمبر من نفس العام حين اعتمدت كلغة رسمية للجمعية العامة وهيئاتها. وقد تم الاحتفال الرسمي لهذا العام في مقر اليونسكو بالعاصمة باريس بمشاركة واسعة من البعثات الدبلوماسية والجامعات والمؤسسات العلمية والمراكز الثقافية في باريس، وبرعاية من برنامج دعم اللغة العربية ودعم لوجستي وفني من المجموعة العربية بالمنظمة. إن اللغة أية لغة ليست أداة للتواصل والاتصال بين البشر فحسب، وليست علامات منطوقة ومكتوبة فقط، ولكنها أكثر من ذلك، فهي وعاء حامل للقيم والهويات، وهي تمثل جزءًا أصيلاً من الذاكرة الجمعية لأية ثقافة، بل أن دراسة الدلالات اللفظية للمفردات اللغوية لأي مجتمع، يشكل دراسة وتعريفاً لهذا المجتمع أكثر منه دراسة لغوية أكاديمية. وبمقاربة ذلك الوصف باللغة العربية نجد أنها تتعدى ذلك بكثير، فهي ليست حاملة لهوية الأمة فقط، ولكنها تكاد تضرب بسماتها وجذورها بعيداً في كل الحضارات والثقافات التي شيدت الحضارة الإنسانية الحالية، وذلك منذ الحضارة الفينيقية القديمة. وهو ما يعني فيما يعني قوامتها على كل ما عداها من اللغات الحيّة الآن. فقد شادت اللغة العربية صرحها اللغوي باتئاد شديد عبر العصور، حيث نقل الفينيقيون أسلاف العرب الكتابة من ترميز للأشياء والمدركات في الكتابة «المسمارية» القديمة، نقلوها إلى ترميز لنطق الإنسان فجعلوا لكل حركة نُطْق صوتية، رمزاً يسهل رسمه وحفظه وهو ما نطلق عليه«الأبجدية»، واقتصرت الأبجدية الفينيقية على اثنين وعشرين حرفاً، كانت مألوفة في القومية الأكادية الكنعانية قبلهم. ومن بعد ذلك جاء العرب وميّزوا ستة أحرف جديدة في تصنيف الأصوات أضافوها للمتداول في الكتابة الأبجدية، فأصبحت تحوي ثمانية وعشرين حرفاً صوتياً مكتوباً، ومن أميز ما أضافه العرب أنهم جعلوا«الشدّة» رمزاً منطوقاً فقط، أي حركة نطق، بينما أسلافهم اعتمدوها حرفا منطوقا مستقلا. ثم جاء أبو الأسود الدؤلي ونَقََطَََ الحروف وقام بتشكيلها بأمر من أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضي الله عنه وذلك كما جاء في ترجمة أبي الأسود لابن حجر. وتوجد الآن الكثير من المفردات العربية في كثير من اللغات العالمية الحية وذلك لاختلاط الأعاجم بالعرب في تلك المرحلة التاريخية وما تلاها من مراحل في عمر البشرية، حيث كانت اللغة العربية منهلاً رفد العلوم عند الترك والفرس وكانت أساس النهضة العلمية التي غيّرت وجه العالم. إن الاحتفاء باللغة العربية ليس فقط احتفالاً بلغة اثنتين وعشرين دولة من الدول الأعضاء في اليونسكو، بل هو يبرز ويؤكد ما قدمه علماؤها وأُدباؤها من إسهام في الثقافة والحضارة العالمية. وهو من بعد ذلك ومن منظورعربي يدرك إمكانياتها مسعى جاد في سبيل إعادة التعريف بها حتى في أوساط مواطنيها وليس فقط لغير الناطقين بها. فاتساع مجال تحوُّل الدلالات في مفردات اللغة العربية نتيجة لتغيير بسيط في حركة صوتية أو حرف بإضافة أو حذف ، مما يعطي عشرات الاشتقاقات من فعل إلى فاعل إلى مفعول أو إلى ظرف زماني أو مكاني أو إلى فعل ذاتي أو انفعال أو..أو، وكل ذلك من مفردة «مصدر» لها دلالتها الأصلية، هو شئ قلّّما يوجد له مماثل في جميع اللغات الأخرى. كما وتمتاز العربية بفن يختص بها وحدها هو فن الخطَّ العربي الذي له مدارسه ومحبوه، كما أن فن العروض هو الآخر لا يكاد يوجد في اللغات الأخرى تقريباً وهو يرتبط كثيراً بالقدرة الإبداعية التي تتيحها دلالات الألفاظ واشتقاقاتها، كما أن مقدرة اللغة العربية على التعريب واحتواءها على الكثير من الأضداد والمترادفات والمشتركات اللغوية، هذا غير الكثير من الصفات الأخرى الخاصة بها التي تميزها عن غيرها وتجعل منها لغة عالمية تصلح لأن تكون قاسماً مشتركاً للألسن في كل العالم. وبينما يتوقع أن تنهار نصف لغات العالم الموجودة الآن وتنقرض بنهاية الألفية، وذلك للعديد من الأسباب وعلى رأسها العولمة فإنه وفي مفارقة غريبة كانت التقنية الرقمية التي هي إحدى أهم عناصر العولمة، كانت سبباً في أحياء بعض اللغات التي هي الآن في طريقها للاندثار ودعمت وجودها. ومما لا شك فيه أن من أكثر العوامل التي تؤدي الى موت اللغة ما يطلق عليه اللغويّون«التّحول اللغوي» الذي يعني تحوُّل الناس عن التحدث بلغتهم الأم الى لغة أخرى. وهي إحدى أهم الإشكالات التي تواجه العديد من اللغات الحية الآن، فهي إن لم تؤد الى اندثارها في القريب المنظور فإنها تتسبب في تخلخل في البنية اللغوية وتقود الى حالة من الإزدواجية التي تفرز العديد من الظواهر وعلى رأسها شيوع وكثرة الأخطاء «كتابية ولفظية» بين الناطقين بها. وتكاد اللهجات المحلية و«العاميّات» التي بالضرورة لا يخلو منها أي مجتمع، تؤدي الى نفس النتيجة السابقة وتتسبب في انحرافات لغوية عميقة التأثير على حيوية اللغة وفاعليتها. وتعتبر هذة الإشكالات من أهم ما يواجه اللغة العربية في الوقت الراهن، ومما زاد من سوء الأمر اعتماد المفكرين والمترجمين العرب على نقل العلوم بلغاتها الأم وإهمال أعمال الترجمة والبحث اللغوي وعدم استحداث معاجم تعالج إيقاع العصر والمتغيرات اللغوية الحديثة. إن دراسة الخطاب اللغوي لكثير من الناطقين بالعربية الآن ينبئ عن إشكالات عميقة تتعرض لها، ما يدفع بضرورة العمل على تحديد مكامن العلّة بدقة لإعادة الحيوية لها، وللحفاظ على هويتها وفرادة تكوينها واستحداث آلية تربوية وتعليمية لتدعيم العلاقة بينها وبين الناطقين بها، مع الأخذ في الاعتبار أن عزل أية لغة عن الاحتكاك بغيرها من اللغات، هو بمثابة توقيع على وثيقة فنائها. بل أن المطلوب الآن هو الانتقال بها إلى مرحلة العالمية، حيث تؤكد الدراسات أنها من أكثر اللغات إقبالا على تعلمها على مستوى العالم. وعلى هذا فإن الاحتفال بها سنوياً، وفي كل الأعوام القادمة، يجب أن يكون بمثابة كشف حساب لما تم تقديمه لها طيلة العام.