من خلال زياراتي المتكررة للعاصمة الأمريكيةواشنطن منذ فترة السبعينيات كنت حريصًا في كل مرة على زيارة معلَمين بارزَين تجبران أي سائح على زيارتهما والتمعن في معالمهما وهما معرض الطيران الأمريكي ومكتبة الكونجرس الأمريكية ذات المقتنيات العالية والتصميم على نمط الطراز الكلاسيكي الإيطالي، وهذه المكتبة تتطلب منك أسبوعاً كاملاً حتى تزور كل معالمها وردهاتها ويرجع الفضل في تأسيس هذه المكتبة حسب ما شاهدناه من لوحة توثيقية للرئيس الأمريكي الثالث توماس جفرسون الرئيس ذي المواهب المتعددة في القانون والفن والهندسة، وقام بتأسيسها عام 1800م بغرض خدمة أعضاء الكونجرس وتزويدهم بالمعلومات وإيجاد مكان ملائم للإطلاع والتزود بالمعرفة، وعند دخولك المكتبة وفي قبة توماس نقشت هذه العبارة التاريخية «المكتبة الأكبر والأكثر تكلفة والأكثر أماناً في العالم» وهي المدخل الرئيس للمكتبة وتبلغ مساحة المكتبة كلياً 29 هكتار وطول رفوفها 856 كيلومترًا وتضم من المواد «230» مليون مادة متنوعة منها: 29 مليون كتاب إلى جانب بعض المواد المطبوعة ب 460 لغة إلى جانب 58 مليون وثيقة، كذلك توقيع جميع الرؤساء الأمريكيين وسيرة حياتهم الذاتية وجميع مشاهير أمريكا، وتشتمل على كل المعزوفات الموسيقية والمواد القانونية والأفلام الوثائقية والخرائط وجميع الاختراعات والاكتشافات في العالم، وكلفت هذه المكتبة عند بداية إنشائها مبلغ خمسة آلاف دولار وظلت المكتبة في بداية تأسيسها ملحقة بمبنى الكونجرس ولكن لا تخلو الأماكن الهامة والحساسة أثناء الحروب من الأذى والدمار فهناك وثيقة في المكتبة توضح الأطوار التي مرت بها المكتبة منذ تأسيسها وأثناء حرب التحرير تعرضت المكتبة يوم 24 أغسطس عام 1814م إلى حريق هائل إثر القذائف الإنجليزية أثناء الحرب مما أدى إلى تدمير معظم محتويات المكتبة الأمر الذي دعا الرئيس توماس جيفرسون أن يتبرع بمكتبته الخاصة لسد هذا النقص، ثم تعرضت المكتبة ثانياً في عام 1851م إلى حريق هائل دمرت النيران الجزء المهم من المكتبة وأحرقت 35 ألف كتاب من إجمالي مكتبة الكونجرس البالغ عددها 55 ألف كتاب. كان لهذا الحريق ردود فعل داخل الكونجرس الأمريكي وبعد مداولات كثيرة تقدم عضو الكونجرس توماس والتر باقتراح إنشاء مبنى جديد وترميم كل المكتبة بمواد غير قابلة للحريق ووجدت الفكرة قبولاً من أعضاء الكونجرس وتمت إجازتها. وفي يوم 23/9/1852م تم افتتاح الجناح الجديد وأصبح حدثًا تناقلته الصحافة الأمريكية وعين لها السيد/ شروت راند أمينًا عامًا للمكتبة وهو شخص مثقف ورياضي وصاحب أفكار واختراعات ساهمت في التكييف القانوني وربطها بالجماهير فحصل من الكونجرس على الموافقة على إضافة جناحين إلى جانب سنّه لقانون الإبداع الذي يضمن حق المؤلف قانونياً وأدبياً وأصدر قانونًا عام 1870م عُرف بقانون حق المؤلفين بوضع نسختين من كل كتاب في المكتبة الأمر الذي أدى إلى زيادة الكتب مما حمل الكونجرس إلى إنشاء مبنى جديد أثار جدلاً طويلاً ثم الموافقة عليه عام 1886م على أن يشيد على الطراز الإيطالي موازياً لبنيان عصر النهضة الإيطالي الكلاسيكي واسند تصميم المبنى للمهندسين جون سميثر وبول بلير وتم إنجازه بعد أحد عشر عاماً أي عام 1897م وأطلق عليه مكتبة الكونجرس وظلت على هذا الاسم فترة 79 عاماً حتى يوم 12 أبريل عام 1976م تم تغييره إلى مكتبة توماس جيفرسون في الحفل الذي أقامه البيت الأبيض بذكرى ميلاد توماس جيفرسون الرئيس العبقري ذو المواهب المتعددة وحضر الحفل الرئيس جيرالد فور وعمل في تصميمها خمسين من أشهر الفنانين والنحاتين حتى طلعت بصورة زاهية رمزاً للثقافة والإبداع والأدب وهي تعتبر مفخرة للشعب الأمريكي. وكم كنت سعيداً في كل زياراتي أن أطوف بكل أقسامها وأوثق كل ما لفت نظري وخاصة أنها مكتبة مغرية لا ترغب في مغادرتها عند زيارتها إلا للنوم. في عام 1928م تقدم أمين المكتبة السيد هربرت بتمان في وثيقة اطلعنا عليها ضمن تاريخ المكتبة يطلب من الكونجرس شراء الأراضي الخالية التي تقع شرق المكتبة لإنشاء ملحق جديد للمكتبة، وفي عام 1930م وافق الكونجرس واعتمد ميزانية وبناء نفق يربط بينه وبين المبنى الرئيسي وإضافة جناح بالجهة الشرقية يخصص للكتب والأشياء النادرة وقامت شركة بيرسون ولسون Persons Wilson بتصميم المبنى بالاشتراك مع المهندس الاستشاري الكسندر بول وتم افتتاح المبنى يوم 2 ديسمبر عام 1938م وتميزت بواية المبنى بالشخصيات القومية والتاريخية وكبار المحاربين والاقتصاديين قام بنقشها النحات لي لوير Lee Lawre، وفي احتفال كبير عام 1980م أطلق عليه اسم مبنى جون أدمز الرئيس الثاني لأمريكا بعد جورج واشنطن.. بعد الثورة الصناعية والتطور الهائل في الاتصالات والتقنية الحديثة في مجال الطباعة لم تقف المكتبة بعيداً عن هذا التطور وظلت المكتبة مواكبة لكل هذا التطور مما حدا بأمين المكتبة ممفورد Mum Ford بدراسة لإنشاء نيابة ثالثة بعد عرضها للكونجرس الذي وافق عليها عام 1965م ووضع لها حجر الأساس عام 1974م، وتم افتتاحه رسمياً يوم 20 نوفمبر عام 1981م بحضور الرئيس رونالد ريجان وأطلق عليه اسم جيمس مادسون الرئيس الرابع لأمريكا الذي يعد الأب الروحي والشرعي للدستور الأمريكي ومبادئ القانون، وقام النحات والترهان كوك Walter Hancok بتصميم تمثال للرئيس مادسون ونحت على الجدار المحيط به أقوالاً مؤثرة من كلام ماديسون وهي ثماني جمل عن الحرية والعدل والمساواة والمعرفة والتعليم وتضم مكتبة ماديسون مكتبة القانون والخرائط وقاعة القراء حول إفريقيا وآسيا والسينما المتحركة والأفلام التلفزيونية وقاعة الصحف وقاعة العلوم والتكنولوجيا ويوجد في مكتبة الكونجرس جناح توماس جيفرسون 300 الف كتاب باللغة العربية على جانب أول مصحف مترجم باللغة الإنجليزية عام 1765م وأعلن مارك ديمتش رئيس قسم المؤلفات بالمكتبة أن الرئيس جيفرسون اشترى المصحف لأن دراسته وأقواله كانت معظمها مقتبسة من القرآن وهو كان يعرف بكل الأديان لأنها مصادر للحياة وقام بترجمة القرآن السير جورج سيل وهو أول ترجمة للقرآن الكريم باللغة الإنجليزية ويعرف المصحف في المكتبة باسم مصحف جيفرسون. تعتبر مكتبة الكونجرس أكبر مكتبة متخصصة في القانون العالمي وتحتوي على أربعة ملايين مصنف وتضم أيضاً أندر المخطوطات في العالم والكتب الأوربية القديمة من بينها أبرز مائة كتاب للأطفال في العالم وتضم المكتبة كذلك أكثر من خمسة ملايين تسجيل صوتي وفي البوابات الرئيسية لمكتب جيفرسون تشاهد أهم أسماء المدن العربية وكم كانت سعادتي أن اطلعت على موسوعات تاريخية نادرة ذات قيمة والجلوس في ردهاتها وقاعاتها والتمتع بكل ما تحتويه من مفخرة وأدعو كل إنسان أن يزور مكتبة الكونجرس وهي تمثل قمة الحضارة وعالمًا قائمًا بذاته يجبرك على احترامه وتقديره.