السفير السعودي لدى السودان يعلن خطة المملكة لإعادة إعمار ستة مستشفيات في السودان    مليشيا الدعم السريع تكرر هجومها صباح اليوم على مدينة النهود    منتخب الشباب يختتم تحضيراته وبعثته تغادر فجرا الى عسلاية    اشراقة بطلاً لكاس السوبر بالقضارف    المريخ يواصل تحضيراته للقاء انتر نواكشوط    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    الحسم يتأجل.. 6 أهداف ترسم قمة مجنونة بين برشلونة وإنتر    شاهد بالفيديو.. رئيس مجلس السيادة: (بعض الوزراء الواحد فيهم بفتكر الوزارة حقته جاب خاله وإبن أخته وحبوبته ومنحهم وظائف)    شاهد بالصور والفيديو.. على أنغام الفنانة توتة عذاب.. عروس الوسط الفني المطربة آسيا بنة تخطف الأضواء في "جرتق" زواجها    المجد لثورة ديسمبر الخالدة وللساتك    بالصورة.. ممثلة سودانية حسناء تدعم "البرهان" وثير غضب "القحاتة": (المجد للبندقية تاني لا لساتك لا تتريس لا كلام فاضي)    المجد للثورة لا للبندقية: حين يفضح البرهان نفسه ويتعرّى المشروع الدموي    استئناف العمل بمحطة مياه سوبا وتحسين إمدادات المياه في الخرطوم    الناطق الرسمي للقوات المسلحة : الإمارات تحاول الآن ذر الرماد في العيون وتختلق التُّهم الباطلة    هيئة مياه الخرطوم تعلن عن خطوة مهمة    قرار بتعيين وزراء في السودان    د.ابراهيم الصديق على يكتب: *القبض على قوش بالامارات: حيلة قصيرة…    هل أصبح أنشيلوتي قريباً من الهلال السعودي؟    باكستان تعلن إسقاط مسيَّرة هنديَّة خلال ليلة خامسة من المناوشات    جديد الإيجارات في مصر.. خبراء يكشفون مصير المستأجرين    ترامب: بوتين تخلى عن حلمه ويريد السلام    باريس سان جيرمان يُسقط آرسنال بهدف في لندن    إيقاف مدافع ريال مدريد روديغر 6 مباريات    تجدد شكاوى المواطنين من سحب مبالغ مالية من تطبيق (بنكك)    ما حكم الدعاء بعد القراءة وقبل الركوع في الصلاة؟    عركي وفرفور وطه سليمان.. فنانون سودانيون أمام محكمة السوشيال ميديا    صلاح.. أعظم هداف أجنبي في تاريخ الدوري الإنجليزي    تعاون بين الجزيرة والفاو لإصلاح القطاع الزراعي وإعادة الإعمار    قُلْ: ليتني شمعةٌ في الظلامْ؟!    الكشف عن بشريات بشأن التيار الكهربائي للولاية للشمالية    ترامب: يجب السماح للسفن الأمريكية بالمرور مجاناً عبر قناتي السويس وبنما    كهرباء السودان توضح بشأن قطوعات التيار في ولايتين    تبادل جديد لإطلاق النار بين الهند وباكستان    علي طريقة محمد رمضان طه سليمان يثير الجدل في اغنيته الجديده "سوداني كياني"    دراسة: البروتين النباتي سر الحياة الطويلة    خبير الزلازل الهولندي يعلّق على زلزال تركيا    في حضرة الجراح: إستعادة التوازن الممكن    التحقيقات تكشف تفاصيل صادمة في قضية الإعلامية سارة خليفة    المريخ يخلد ذكري الراحل الاسطورة حامد بربمة    ألا تبا، لوجهي الغريب؟!    الجيش يشن غارات جوية على «بارا» وسقوط عشرات الضحايا    حملة لمكافحة الجريمة وإزالة الظواهر السالبة في مدينة بورتسودان    وزير المالية يرأس وفد السودان المشارك في إجتماعات الربيع بواشنطن    شندي تحتاج لعمل كبير… بطلوا ثرثرة فوق النيل!!!!!    ارتفاع التضخم في السودان    بلاش معجون ولا ثلج.. تعملي إيه لو جلدك اتعرض لحروق الزيت فى المطبخ    انتشار مرض "الغدة الدرقية" في دارفور يثير المخاوف    مستشفى الكدرو بالخرطوم بحري يستعد لاستقبال المرضى قريبًا    "مثلث الموت".. عادة يومية بريئة قد تنتهي بك في المستشفى    وفاة اللاعب أرون بوبيندزا في حادثة مأساوية    5 وفيات و19 مصابا في حريق "برج النهدة" بالشارقة    عضو وفد الحكومة السودانية يكشف ل "المحقق" ما دار في الكواليس: بيان محكمة العدل الدولية لم يصدر    ضبط عربة بوكس مستوبيشي بالحاج يوسف وعدد 3 مركبات ZY مسروقة وتوقف متهمين    الدفاع المدني ولاية الجزيرة يسيطر علي حريق باحدي المخازن الملحقة بنادي الاتحاد والمباني المجاورة    حسين خوجلي يكتب: نتنياهو وترامب يفعلان هذا اتعرفون لماذا؟    من حكمته تعالي أن جعل اختلاف ألسنتهم وألوانهم آيةً من آياته الباهرة    بعد سؤال الفنان حمزة العليلي .. الإفتاء: المسافر من السعودية إلى مصر غدا لا يجب عليه الصيام    بيان مجمع الفقه الإسلامي حول القدر الواجب إخراجه في زكاة الفطر    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



مفهوم الدولة العلمانية (3-3) .. بقلم: د. أمين حامد زين العابدين
نشر في سودانيل يوم 30 - 12 - 2011


(ب) النموذج الأمريكي للدولة العلمانية
اتخذت العلاقة بين الدين والدولة أشكالاً مختلفة في المستعمرات الإنجليزية التي تمّ تأسيسها في أمريكا الشمالية منذ مطلع القرن السابع عشر. فتمّ دمج الدين والدولة في مستعمرة فرجينيا عندما قررّ مجلسها التشريعي في 1619م تأسيس الكنيسة الإنجليكانية بمقتضى القانون لتكون الكنيسة الرسمية للمستعمرة.68 وتمّ إصدار قانون في عام 1662م يلزم سكان المستعمرة بأداء العبادات والطقوس الدينية طبقاً لتعاليم الكنيسة الرسمية فقط ويشترط على الكهنة الذين يدخلون فيرجينيا تقديم وثائق اعتماد تثبت التزامهم بتعاليم الكنيسة الرسمية للحاكم الملكي لكي يقوموا بمهام التدريس والوعظ الديني العام.69 وتعرض أتباع الطوائف البروتستانتية المنشقة مثل البيوريتان والكويكرز والمعمدانيين، الذين بدأوا الاستقرار في فرجينيا في أواخر القرن السابع عشر وزاد انتشارهم في القرن الثامن عشر، للاضطهاد الديني ومنعهم من أداء شعائرهم الدينية بالرغم من إدراك إنجلترا لعدم وجود تعارض بين تأسيس كنيسة رسمية والحريات الدينية وإصدارها قانون التسامح في 1688م.
ومن أمثلة ذلك المضايقات التي واجهها القسيس صمويل ديفز الذي جاء إلى فرجينيا في 1747م لوعظ أنصار الكنيسة المشيخية وتقييد سلطات فرجينيا لتحركاته داخل المستعمرة ومنعه من الوعظ الديني وأداء مراسم الزواج.70 كما تعرض أنصار الكنيسة المعمدانية في فرجينيا للجلد والتهكم والاعتداء وتمّ اعتقال ستة أشخاص منهم في عام 1774م .71 وكانت فرجينيا من أشدّ المستعمرات تعصباً ضد الأقليات الدينية التي لا تؤمن بالعقائد والطقوس التي فرضتها الكنيسة الإنجليكانية الرسميّة.72 كما تمّ تأسيس الكنيسة الإنجليكانية لتكون الكنيسة الرسمية الوحيدة في بقية المستعمرات الجنوبية وهي ماريلاند، شمال كارولينا، جنوب كارولينا وجورجيا.
تمكن البيوريتان الذين بدأت هجرتهم إلى أمريكا الشمالية في عام 1620م من تأسيس مستعمرات إنجليزيّة في الأراضي التي تقع شمال مستعمرة فرجينيا وهي مستعمرات ماساشوستس، كونيتيكيت ونيوهامبشاير. وأصبحت الكنيسة الجماعية أو المستقلة الابرشانية Congregational هي السائدة في هذه المستعمرات حيث تمكن البيوريتان من تطبيق تصورهم للعهد Covenant مع الكنيسة الذي يؤكد العلاقة الوثيقة بين المجتمعين المدني والديني. وأصدرت مستعمرة ماساشوستس مثلاً في عام 1648م قانوناً "يأمر المواطنين بالحضور إلى الكنيسة وفرض غرامات مالية لمن لا يلتزم بذلك، ودفع ضرائب اجبارية لدعم الكنيسة وفرض العقوبة لمن لا يلتزم بتعاليم المسيح والأحكام الإلهية."73 وقال جون وينثروب حاكم مستعمرة ماساشوستس بأنهم جاءوا إلى المستعمرة "كمجموعة مؤمنة وكنيسة حق وصفاء وكأعضاء في عهد مع بعضنا البعض ومع الرب."74 ووصف كاري أريكسون نزعة التعالي لدى البيوريتان بقوله: "كانت الحقيقة في نظر البيورتان شديدة الوضوح، إذ اختار الرب صفوة لتمثله على الأرض وتلحق به في السماء. وعرف الأشخاص الذين ينتمون إلى هذه الصفوة بأنه قد تمّ اختيارهم لهذه المكانة عن طريق تجربة تحول روحي عميق منحهم المسئولية للسيطرة على أقدار الآخرين."75
لذلك لم يكن من المستغرب أن يظهر البيوريتان العداء الشديد ضد كل من يجهر بآراء تخالف تعاليم الكنيسة الرسمية التي أسسوها في مستعمراتهم الأمريكية، إذ قال أحد أشهر قساوستهم وهو جون كوتون: "لقد كان التسامح هو المسئول عن جعل العالم مضاداً للمسيحية."76 وأصدرت حكومة ماساشوستس في عام 1647م قانوناً يمنع أنصار المذهب المعمداني من دخول المستعمرة.77 وتمّ اعتقال ثلاثة قساوسة من المعمدانيين في عام 1651م وجلدهم بالسياط لدخولهم المستعمرة بغرض التبشير لمذهبهم.78 كذلك تمّ إعدام ثلاثة قساوسة ينتمون لطائفة الكويكرز وهم مارمادوك ستيفن، ويليام روبنسون وماري داير في عام 1659م و1660م لدخولهم مدينة بوسطن.79
كان الواعظ ويليام روجرز الذي ينتمي إلى طائفة الإنفصاليين البيورتانية، أحد ضحايا تعصب الكنيسة الجماعية Congregational في ماساشوستس والتي قامت بطرده من المستعمرة لمجاهرته بآراء طائفته التي تدعو إلى الفصل بين الكنيسة والدولة. كما رفض أن يؤدي القداس في كنيسة سالم طبقاً لطقوس الكنيسة الرسمية خشية أن لا يكون طاهراً ونقياً بسبب اختلاط صفوة المهتدين مع الضالين.80 وجادل ويليام روجرز بأن صلاحيات السلطة المدنية تقتصر على شؤون المجتمع الدنيوية وتنظيم العلاقات بين أفراد المجتمع وعقاب من يرتكب جرائم السرقة والقتل. "كذلك يختص المسئولون الروحيون الذين يشرفون على مدينة المسيح أو مملكة الله بالشؤون الروحيّة وتحقيق النجاة لأرواح المؤمنين."81
لاحظ بروفسور تيموثي هول بأنّ آراء روجر ويليامز تشير إلى "ضرورة أن تكون السلطات التي تمارسها الحكومة المدنية ممنوحة بواسطة الشعب ولكن لم يمنح الشعب أي سلطات لحكم الكنيسة عروس المسيح... لذلك يكون غير شرعياً أن تشرف السلطة المدنية على الدين وتسيطر عليه لأن ذلك يرقى إلى اضطهاد حرية الضمير."82 لذلك نجد أن روجر ويليامز قد ربط توفر الحريات الدينية بإلغاء الكنيسة الرسمية التي تؤسس بمقتضى القانون لكي يسود اعتقاد ديني واحد في المجتمع. وكان يرى أن النتيجة الحتمية لفرض الدولة لدين رسمي واحد هو مقاومة الطوائف الدينية الأخرى لذلك وظهور الفتن والحروب الأهلية في هذه الدنيا واللعنة الأبدية في العالم الآخر.83 وتظهر أهمية التسامح الديني في فكر روجر ويليامز بدعوته إلى منح الحريات الدينية لكل الطوائف الدينية المسيحية وغير المسيحية بقوله: "إنها إرادة وأمر الرب بأن تمنح حرية العبادة والضمير للوثنيين واليهود والأتراك (أي المسلمين) أو المضادين للمسيحية في كل الأمم والأقطار ولا يمكن قتالهم إلا بالموعظة الحسنة والسيف الذي يغزو الأرواح أي سيف روح الله وكلمة الله."84
وتوسع روجر ويليامز في تفنيد وإدانة تقليد دمج الكنيسة والدولة السائد في مستعمرة ماساشوستس في كتيب نشره عام 1644م يرد فيه على خطاب أرسله له القسيس جون كوتون في 1636م لتبرير قرار سلطات ماساشوستس بإدانته وطرده من المستعمرة. فأشار إلى أن عدم فصل سلطات ماساشوستس للكنيسة عن شؤون الحكم والدنس الدنيوي هو بمثابة إقرار بالنجاسة التي تترتب على هذا الوضع. 85 وذكر أن إجبار حكومة ماساشوستس لسكان المستعمرة بالخضوع لأعراف الكنيسة الرسمية ودفع الضرائب لتوفير الدعم المالي لقساوستها يعكس إصرارها على مزج الطاهر مع النجس ورعية المسيح مع رعية العالم الدنيوي.86 واستخدم روجر ويليامز تشبيه الجدار العازل بين الكنيسة والدولة لتأكيد رأيه بأن الفصل هو أنسب الطرق لتنظيم العلاقة بينهما. فشبه الكنيسة بالحديقة والعالم الدنيوي بالأرض اليباب وأن المزج بينهما قد أثار غضب الرب فأزال السياج الفاصل بينهما لتصبح الكنيسة مثل الأرض اليباب. لذلك "يجب إقامة الجدار الفاصل ليعيد الرب الكنيسة إلى بهاء الحديقة والجنة."87
وجد روجر ويليامز الفرصة لتطبيق آرائه حول العلاقة بين الدين والدولة عندما أسس مستعمرة رود إيلاند في عام 1636م "وعقد العزم على ألا يكون للحكومة المدنية أي صلة بالدين عدا ما يتعلق بحفظ السلام والنظام الاجتماعي."88 فكانت رود إيلاند بذلك أول مستعمرة إنجليزيّة في أمريكا الشمالية لم تؤسس فيها كنيسة رسمية بمقتضى القانون وسمح فيها لكل الطوائف الدينية بحرية العبادة وأداء الشعائر الدينية. وانعكس هذا في الميثاق الذي منحه الملك شارلز الثاني للمستعمرة في عام 1663م والذي نصّ على أنّه "يجب ألا يتعرض أي شخص يعيش في هذه المستعمرة للتحرش والمضايقة والعقاب والإزعاج بسبب اختلاف الرأي في شؤون الدين."89
وتمّ تطبيق التجربة التي ابتدعتها مستعمرة رود إيلاند لتنظيم العلاقة بين الدين والدولة في مستعمرة بنسلفانيا التي أسسها في عام 1682م القس ويليام بن (1718-1644م) الذي ينتمي إلى طائفة الكويكرز الدينية. وعرض ويليام بن آرائه حول أهمية الحريات الدينية في كتابه "الحجة العظمى لحرية الضمير."الذى صدر في عام 1670م وهاجم فيه تدخل الحكومة المدنية في حرية الضمير ومعتقدات الطوائف الدينية.90 وهاجر العديد من أنصار الطوائف الدينية المختلفة من المستعمرات الأخرى للاستقرار في بنسلفانيا التي سمحت لهم سلطاتها بحرية العبادة دون أي مضايقة من الحكومة المدنية وذلك مثل الإيميش وال Mennonites و Anabaptists والألمان اللوثريين والألمان الإصلاحيين (أتباع كالفن) والإيرلنديين الكاثوليك والمعمدانيين من إقليم ويلز في بريطانيا.91
وتميزت العلاقة بين الدين والدولة في مستعمرات نيويورك وديلاوير ونيو جيرسي بتأسيس حكوماتها لأكثر من كنيسة رسمية وهو النوع الذي أطلق عليه بعض المؤرخين اسم الكنائس المتعددة Multiple Establishments.92 وكان سبب ظهور هذا النمط للعلاقة بين الدين والدولة خضوع هذه المستعمرات في السابق لاستعمار هولندا والسويد حيث أسست الأولى الكنيسة الإصلاحية الهولندية في نيوامستردام في عام 1629م والثانية الكنيسة السويدية في مستعمرة السويد الجديدة بالقرب من نهر ديلاوير في عام 1643م .93 واستمرت الكنيسة السويدية على حالها بعد احتلال هولندا لمستعمرة السويد الجديدة في عام 1645م، كما سمحت إنجلترا ببقاء الكنيسة الإصلاحية الهولندية بعد أن استولت على مستعمرة هولندا الجديدة في عام 1664م وغيّرت اسمها إلى نيويورك.94 وتميزت هذه المستعمرات بكثرة التنوع الديني الأمر الذي اقنع حكامها بضرورة كفالة الحريات الدينية لجميع سكانها. ووصف حاكم نيويورك أدموند اندروس التنوع الديني السائد في المستعمرة في عام 1678م بقوله: "يوجد لدينا هنا كل أنواع الأديان: كنيسة إنجلترا والعديد من أنصار الكنيسة المشيخية والكنيسة الجماعية والكويكرز وأنصار مذهب تجديد التعميد Anabaptists وبعض اليهود.95
يتضح مما سبق الدور الرئيس الذي قامت به بعض الطوائف البروتستانتية في مستعمرات إنجلترا في أميريكا الشمالية في ظهور مبدأ فصل الدين عن الدولة والمطالبة بعدم تأسيس كنائس رسمية Disestablishment ونجاحهم في تطبيقها في مستعمرتي رود إيلاند وبنسلفانيا في القرن السابع عشر. وانضمّ إلى هؤلاء بعد منتصف القرن الثامن عشر صفوة من الفلاسفة والسياسيين ومؤلفي الكتيبات الذين تأثروا بأفكار فلاسفة عصر التنوير وطالبوا بإلغاء الكنائس الرسمية باعتباره السبيل الوحيد لضمان حرية الأديان لكل الطوائف الدينية.96 وكما ذكر بروفسور جون فيت "اتحد أعضاء هذه المجموعة رغم تباين آرائهم الدينية ووضعهم الاجتماعي، في جهودهم لتحويل قيّم عصر التنوير إلى واجبات دستورية والتزامهم بالآراء السياسية لبنجامين فرانكلين، توماس جيفرسون، جيمس ماديسون، توماس بين وآخرين."97
وساهمت حروب الاستقلال الأمريكيّة ضد الاستعمار الإنجليزي في الفترة ما بين 1776و 1783م في تسريع عملية إلغاء الكنائس الإنجليكانية الرسمية بسبب السخط العام ضد النظام الملكي البريطاني وكنيسة إنجلترا التي ارتبطت به. فقررت مستعمرة شمال كارولينا في الدستور الذي أصدرته في عام 1776م إلغاء القانون الذي منح الكنيسة الإنجليكانية وضع الكنيسة الرسمية الوحيدة وحرمانها من كل الامتيازات التي تمتعت بها. كما قامت بنفس هذا الإجراء مستعمرة جورجيا في عام 1777م ونيويورك في 1777م وجنوب كارولينا في عام 1778م. وذكر ويليام تينيت أحد زعماء الكنيسة المشيخية في المجلس التشريعي لجنوب كارولينا "اعتقد أن السبب الأساسي لاعتراضي على أي كنائس رسمية تؤسس بمقتضى القانون هو أنها تمثل انتهاكاً للحرية الدينية.98
وحافظت فرجينيا على الوضع القانوني الرسمي للكنيسة الإنجليكانية لفترة بعد اندلاع الثورة الأمريكية وإن كان مجلسها التشريعي قد أصدر في عام 1776م قانون الحقوق الذي نصّ في أحد مواده على إعفاء البروتستانت المنشقين من دفع ضرائب العشور للكنيسة الإنجليكانية.99 واحتجت الكنيسة المعمدانية في عام 1783م ضد التمييز الذي يمارس ضد البروتستانت المنشقين في القوانين التي تنظم المجالس الكنسية والزواج وطالبوا في مذكرة قدموها إلى حكومة فرجينيا بحق المساواة "وأنّ السبيل الوحيد للخلاص من الظلم الواقع عليهم هو عدم إصدار أي قانون يربط الكنيسة بالدولة في المستقبل."100 واحتدم النقاش حول إلغاء الكنيسة الأسقفية الرسمية في عام 1784م عندما قدم باتريك هنري للمجلس التشريعي مشروع قانون يقترح فيه فرض ضرائب لتوفير الدعم لمرتبات قساوسة الكنيسة الرسمية. وعارض المنشقون البروتستانت الاقتراح بحجة أن إجبارهم على دفع الضرائب يمثل عقوبة ضدهم وانتهاكاً لحرية الضمير إلى جانب منحه امتيازات لقساوسة الكنيسة الرسمية.101
وتصدى النائب جيمس ماديسون للهجوم على اقتراح باتريك هنري الذي يسعى إلى ترسيخ الكنيسة الرسمية وذلك بتقديم اقتراح مضاد اسماه "مذكرة واستنكار" يهدف إلى فصل الكنيسة عن الدولة بإلغاء الكنيسة المؤسسة الرسمية وعدم تأسيس أي كنيسة رسمية في الولاية. وقال في معرض ذلك "من لا يرى أنّ نفس السلطة التي تؤسس المسيحية كديانة رسمية وتقصي كل الأديان الأخرى قد تؤسس بنفس السهولة واليسر لطائفة مسيحية معينة وإقصاء كل الطوائف المسيحية الأخرى."102 وجادل ماديسون بأن الحكومة المدنية لا تحتاج إلى التأسيس الرسمي للمسيحية خاصة وأن معظم الحكومات المدنية تستخدم الكنائس الرسمية من أجل الطغيان.103
وأشار إلى دور الكنائس المؤسسة بمقتضى القانون في تأجيج الصراع والحروب الأهلية والتي تعتبر الحرية الكاملة والمتساوية العلاج الحقيقي لها.104 واعتبر إجبار المواطنين على دفع الضرائب للكنائس الرسمية انتهاكاً "لحرية ممارسة الشعائر الدينية حسب ما يمليه عليه الضمير."105 ومما ذكره ماديسون في "مذكرة واستنكار": "أبانت التجربة أن تأسيس الكنائس الرسمية لا يحفظ نقاء الدين وفعاليته بل العكس من ذلك. وظلّ تأسيس المسيحية بمقتضى القانون قيد المحاكمة خلال ما يناهز الخمسة عشر قرناً. فماذا كانت نتيجة ذلك؟ غرور وكسل الكهنة وجهل وعبودية جمهور المؤمنين وتفشي الشعوذة والتعصب والاضطهاد وسط كل منهما."106
اقتنع نواب المجلس التشريعي بمذكرة ماديسون ورفضوا التصديق على اقتراح باتريك هنري. وأجاز المجلس فى عام 1786م "قانون تاسيس الحرية الدينية" (الذي سبق أن قدمه جيفرسون للمجلس فى عام 1779م ولم ينجح في نيل الموافقة عليه في ذلك الوقت) حيث تمّ بمقتضاه إلغاء الكنيسة الأسقفية الرسمية في ولاية فرجينيا وضمان حرية العبادة وأداء الشعائر الدينية لكل المواطنين.107 لم تواجه الكنائس الجماعية Congregational المؤسسة بمقتضى القانون في نيو إنجلاند مصير الكنائس الانجليكانية في الولايات الجنوبية لدورهم القيادي في الثورة الأمريكية وإصرار سكانها على بقائها. وقال جون آدامز في هذا السياق "قد نتوقع قريباً حدوث تغيير في المجموعة الشمسية أكثر مما نتوقع أن يتخلى سكان نيو إنجلاند عن كنائسهم المؤسسة."108 لذلك استمر وجود الكنائس المؤسسة في ولايات ماساشوستس، كونيتيكيت، ونيوهامبشير وفيرمونت لفترة طويلة بعد استقلال الولايات المتحدة ولم يتم إلغائها إلا في عام 1834م .109
وتمّ التأكيد على مبدأ المواطنة الذي يمنع التمييز ويساوي بين كل أفراد المجتمع أمام القانون في الدستور القومي للولايات المتحدة الذي تمّ التصديق عليه في عام 1789م. فنصت المادة السادسة فقرة (3) "يجب عدم الاختبار الديني كمؤهل لتولي أي منصب أو وظيفة عامة في الولايات المتحدة."110 وتفوق الدستور الأمريكي بذلك على الدستور البريطاني الذي أبقى مبدأ الاختبارات الدينية لمنع أي شخص لا ينتمي للكنيسة الانجليكانية من تولى أي وظيفة في الدولة والذي لم يتم إلغائه إلا في عام 1829م كما ذكرنا سابقاً.111 وتمّ تضمين العناصر الأخرى للدولة العلمانية (فصل الدين عن الدولة وحرية الأديان) في الدستور الأمريكي عندما تمّ التصديق على قانون الحقوق في عام 1791م ونصّ التعديل الأول للدستور "يجب أن لا يصدر الكونجرس قانون لتأسيس الدين أو منع حرية ممارسة الشعائر الدينية."112
ولم تبد الحكومات الأمريكية العداء تجاه الدين مثلما كان الأمر في الأقطار التي قررت فصل الدين عن الدولة. ويعزى ذلك إلى الدور الذى قامت به بعض الطوائف البروتستانتية في ظهور مبدأ فصل الكنيسة عن الدولة والذي ينعكس في استخدام الرئيس جيفرسون لتشبيه الجدار الفاصل لوصف التعديل الأول للدستور الأمريكي في الخطاب الذي أرسله إلى إحدى جمعيات الكنيسة المعمدانية في عام 1802م وذكر فيه "اتأمل بتبجيل سيادي ما قام به الشعب الأمريكي عندما أعلن مجلسه التشريعي بأنه لن يصدر "أي قانون لتأسيس الدين أو منع حرية ممارسة العبادة الدينية" حيث أنشأ بذلك جداراً فاصلاً بين الكنيسة والدولة.113
وقدمت المحكمة العليا تفسيراً مفصلاً لمبدأ فصل الدين عن الدولة في الحكم الذي أصدرته في عام 1947م في قضية ايفرسون ضد مجلس إدارة التعليم والذي ذكر: "تعنى مادة تأسيس الدين في التعديل الأول على الأقل ما يأتي: لا يمكن للولاية ولا الحكومة الفدرالية تأسيس كنيسة رسمية، ولا يمكنها إصدار قوانين لمساعدة دين واحد، مساعدة كل الأديان أو تفضيل دين على دين آخر. ولا يمكنها إجبار أي شخص أو التأثير عليه للذهاب أو الإمتناع عن حضور الكنيسة ضد رغبته أو إجباره على اعتناق معتقد ديني أو عدم الإيمان بأي دين. لا يمكن معاقبة شخص لاعتناقه دين معين أو عدم إيمانه أو لحضوره المراسم الدينية في الكنيسة أو عدم حضوره. ولا يمكن فرض الضرائب مهما كان مقدارها المالي لدعم أي نشاطات دينية أو مؤسسات دينية مهما كان اسمها أو الشكل الذي تبنته لتدريس الدين أو ممارسته. ولا يمكن للولاية أو الحكومة الفدرالية المشاركة سراً أو علناً في شؤون أي منظمة دينية أو العكس. وقصدت المادة ضد تأسيس الدين حسب كلمات جيفرسون تأسيس "جدار فاصل بين الكنيسة والدولة".114
ويمكن أن نتخذ الهند والمكسيك كأمثلة للدول اقتبست مبدأ فصل الدين عن الدولة من النموذج الأمريكي للدولة العلمانية. فلا توجد أي مادة في دستور الهند تشير إلى تحديد دين رسمي للدولة، ونصت المادة (27) منه على عدم جباية أي ضرائب من المواطنين لإعلاء منزلة أو صيانة أي دين معين أو طوائف دينية.115 كما نصت المادة 28 على منع تدريس مادة الدين في أي مؤسسة تعليمية تعتمد على الدعم المالي للدولة.116 كذلك تمّ النص على حرية الدين في المواد 25،26،30 وتمّ تضمين مبدأ المواطنة في المواد 15،16،29،325،330،332..117
وتمّ النص بتفصيل مسهب على "المبدأ التاريخي لفصل الكنيسة عن الدولة" في المادة 130 (المعدلة في عام 1992م) من دستور الولايات المتحدة المكسيكية، كما ضمنت المادة 24 منه مبدأ حرية الأديان.118
(ج) الدولة العلمانية الإستبدادية
يوجد هناك أيضاً نوع استبدادي للدولة العلمانية الحديثة يتميز بالنزعة الشمولية وهيمنة حزب أيدولوجي على الدولة والعمل السياسي بهدف تنفيذ الأهداف والقيم التي تبشر بها ايدلوجيته. وينقسم هذا النوع إلى نموذجين مثلما هو الحال في الدولة العلمانيّة الديمقراطية. ويتسم النموذج الأول بالتطرف في تطبيق مبدأ فصل الدين عن الدولة بسبب عدائه الشديد للدين ومحاولة إقصائه كليةً من الحياة العامة. لذلك يفتقر هذا النموذج لمبدأ حرية الأديان فيتم حظر أو تقييد العبادة وممارسة الشعائر الدينية في الأقطار التي يسود فيها. ويحافظ هذا النموذج على مبدأ المواطنة ومساواة الجميع أمام القانون. وازدهر هذا النموذج بعد نجاح الثورة الروسية في عام 1917م وتأسيس النظام الشيوعي في جمهورية الاتحاد السوفيتي السابقه وتبنت هذا النموذج تركيا في عهد كمال أتاتورك ويسود حالياً في الصين وكوريا الشمالية وكوبا.
أمّا النموذج الثاني للدولة العلمانية الاستبدادية فيمتاز بوجود علاقة قوية بين الدين والدولة تصل إلى درجة الدمج بينهما مع المحافظة على مبدأ المواطنة ومنح الأقليات الدينية قدراً مناسباً من حرية العبادة. ومن أمثلة هذا النموذج النظام السياسي في جمهورية مصر بعد ثورة عام 1952م حيث نصّ الدستور منذ عهد جمال عبد الناصر على أنّ الإسلام هو الدين الرسمي للدولة. وذكرت المذكرة الايضاحية لتطوير الأزهر قانون رقم 603 بتاريخ 22/6/1961م "أنّ الإسلام لا يفرق بين علم الدين وعلم الدنيا لأنه دين اجتماعي ينظم سلوك الناس في الحياة ليحيوا حياتهم في حب الله. فكل مسلم يجب أن يكون رجل دين ورجل دنيا." 119 وأشار د.محمد عمارة إلى أنّ الدولة في عهد عبد الناصر قد انجزت العديد من الأعمال في المجال الديني مثل تعمير المساجد وزيادة ميزانية الأوقاف ودورها في تأسيس منظمة المؤتمر الإسلامي ولجان إحياء التراث الإسلامي والتوسع في التعليم الإسلامي.120 كما لاحظ تامر مصطفى أنّ الرؤساء جمال عبد الناصر، وأنور السادات وحسني مبارك قد استفادوا من سيطرة الدولة على مؤسسة الأزهر الدينية للحصول على فتاوى دينية تمنح الشرعية لسياساتهم.121
ويمكن إدراج أنظمة الحكم في السودان في فترات حكم الفريق إبراهيم عبود (1958-1964م) والمشير جعفر نميري (من 1969م وإلى سبتمبر 1983م) ضمن هذا النموذج لوجود علاقة قوية بين الدين والدولة في ظل هذه الأنظمة واحتفاظها بمبدأ المواطنة وإتاحة بعضها لقدر محدود من الحريات للأقليات الدينية.
من كتاب اتفاقية السلام الشامل وخلفية الصراع الفكري
دار جامعة الخرطوم للنشر 2007
حقوق الطبع محفوظة للمؤلف
الهوامش
amin zainelabdin [[email protected]]


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.