واشنطن دي سي رغم انها عاصمة الولاياتالمتحدةالامريكية الا انها اكثر هدوءا وأقل صخبا من نيويورك..انها اقل منها في كثير من الاشياء..نيويورك استأثرت بالحسنات والسيئات معا ، الثقل المالي والثقافي والصناعي لنيويورك لا تستطيع واشنطن مضاهاته ، كما لا تستطيع ان تضاهيها في عالم الجريمة ايضا ، الاحصاءات تشير الى ان نيويورك تحتضن ما يقارب من نصف مدمني المخدرات في الولاياتالمتحدةالامريكية ، وفيها (حتى لا اقول يسكن بها) بضعة ملايين من الذين يعتمدون على الضمان الاجتماعي. واشنطن تتواضع امام طغيان نيويورك العاتي ورأسماليتها الجارفة ، ومبانيها الشاهقة ، والمفارقة انه رغم ناطحات السحاب التي تزحم فضاء نيويورك إلا ان حوالي الثلثين من سكان هذه المدينة كما تقول الإحصاءات لا يمتلكون منزلا او شقة ملكا حرا ، فكل هذه النسبة الضخمة تسكن بالإيجار في نيويورك..ان المال في هذه المدينة العملاقة(دولة بين الاغنياء) حقا. البنية التحتية المسافة بين المدينتين بالبص حوالي خمس ساعات ، وبحساب الجغرافيا فإنها بضعة مئات من الكيلومترات..طوال هذه المسافة الزمنية والجغرافية ، كانت الارض تتحدث عن عبقرية الامريكان في مجال البنية التحتية ، وتحدثك الارض عن كرم السماء عليها بالماء الذي يتحول الى ارض مخضرة وأشجار لا تمتد اليها الايدي بالقطع. رغم شهرة واشنطن ومكانتها السياسية المتقدمة ، إلا انها لم تنل شرف ان تكون ولاية مثل نيويورك ، وإنما هي مدينة تم اقتطاعها من ولايتي فرجينيا وميريلاند ، وعليه فإن واشنطن تتبع مباشرة للحكومة الفيدرالية الامريكية ولا تقع ضمن هيمنة اية ولاية. خلافا لمدينة نيويورك التي يعتبرها الكثيرون بمثابة مدينة انصهرت فيها السحنات والأعراق ، فإن السود في كثير من مناطق واشنطن يشكلون أغلبية ، ويظن البعض انه لهذا السبب فقط لم ترتق واشنطن دي سي الى مرتبة الولاية .. في اكثر من شارع داخل واشنطن يمكن بوضوح ان تلاحظ علامة مرورية على جانبي الطريق تنبهك الى وجود غزلان عابرة بحيث يتوجب على السائق التريث والانتباه ، وهي اشارة مهمة الى من هم مثلي الى محافظة الامريكان الشديدة على الطبيعة حتى داخل العاصمة الاشهر على مستوى العالم. جدل العلاقة استدعيت جدل علاقة الامريكيين بالكلاب وأنا في ولاية فرجينيا حيث دلفت الى احد المساجد اسمه(مسجد دار الهجرة) برفقة الاستاذ الامين شنقراي، والأستاذ شنقراي رئيس سابق لجبهة الشرق السودانية تخرج في الجامعات السعودية وانخرط في العمل المعارض المسلح بجبهة الشرق في التسعينيات ، ولكنه عاف السياسة ومقتها وتعافى من امراضها وعللها ويمم وجهه صوب الولاياتالمتحدةالامريكية واستقر به المقام هناك مع اسرته الصغيرة..كان الامين شنقراي يهتز طربا حينما اورد له ابيات الشعر التي تقول: من مبلغ القوم شطت دارهم ونأوا اني على عهدي وميثاقي عفت السياسة حتى ما ألم بها وقد رددت عليها كل ميثاق فإنها جشمتني كل غائلة وأنها كلفتني غير أخلاقي وبعد ان تفعل به الابيات فعلتها وتنتزع منه تنهيدة طويلة ، كان يردد البيت الاخير ويرى كأنما قيل فيه او عنه .. دلفنا الى ذلك المسجد في ولاية فرجينيا ، وفيه اقترب منا احد الاخوة العرب الذي يبدو انه خاض تجربة زوجية قاسية مع احدى بنات وطنه الأصل ، كان الرجل يبحث عن فرصة للالتحاق بعمل وبعد ان عرف انه طرق الباب الخطأ ، بدأ يتبرع لنا بالنصائح ويحذرنا من الزواج من العربيات(لأنهن ادرى بمناطق الالم) كما قال عن تجربته هو. بعد ان خرجنا اشار لي الاستاذ شنقراي الى ان الرجل ربما يكون خسر معظم ما يملك نتيجة حكم المحكمة ضده لصالح زوجته..شنقراي اضاف الى معلوماتي - وهذا يعيدنا الى الحديث عن الكلب ومكانته هناك - ان الناس في الولاياتالمتحدة يتجنبون ان يكونوا خصما لثلاثة : الطفل والمرأة والكلب. قطع شنقراي علاقته بالسياسة ولكن علاقته بالشرق لا تزال موصولة ، فبحكم وطنيته السودانية وبحكم مواطنته الامريكية يسعى شنقراي الى ان يجد الناس في الشرق حظهم من المساعدات التي تقدمها الولاياتالمتحدة عبر هيئة المعونة الأمريكية .. شنقراي اضاف الى زيارتي طعما ونكهة ، كان يحدثني عن السودان وتارة عن امريكا حيث اقام بصورة نهائية مع أسرته ، وطورا يمتد الحديث الى احوال المسلمين في الولاياتالمتحدةالأمريكية ، وطورا آخر الى احوال السودانيين في ارض الاحلام. صغيرة اسمها (بيادر) احتفى شنقراي بمقدمي كثيرا ، وشكلت رغبتي في المعرفة عن امريكا وتفرغه شبه الكامل على مدى يومين لاصطحابي و التطواف بي في واشنطن دي سي وولاية فرجينيا المجاورة بالإضافة الى ولاية ميريلاند جزءا مقدرا من المادة الصحفية التي اكتبها من واقع المشاهدة. (بيادر) الابنة الصغرى للأستاذ شنقراي وهي في ربيعها السادس عشر تقريبا احتفت بي على طريقتها الخاصة ، سيل من الاسئلة البريئة والجريئة التي تدل على نضج ووعي كامل ، بعض اسئلتها يحتاج الاجابة عليها الى ورشة عمل ، ولكنها تدل في النهاية على جيل جديد سوداني الهوية - رغم الجواز الامريكي - يريد ان يناقش ويفهم ويجادل ، ويرفض مبدأ المسلمات. كانت الصغيرة بيادر تسأل عن الحريات الصحفية في السودان ، وعن مقدار الهامش الذي تتحرك فيه الصحافة ، وعن مدى تأثير ما تكتبه الصحف على صانع القرار ، وامتدت الاسئلة الخلاقة حتى طالتني شخصيا ، لتتحدث عن مهمة الصحفي داخل صالة التحرير ، وعن رؤية الصحفيين لتطوير وترقية المهنة ، وعن حجم توزيع الصحف في السودان. لم تكن هذه الصغيرة تجتهد في السؤال ايضا ، بل انها كانت تجتهد ايضا في فهم اللغة العربية وترفض محاولة والديها لترجمة النص العربي لإجابتي وتقاطعهم بإلحاح ان لا يفعلوا لأنها تفهم ما اقول..لم يقطع هذا الحوار إلا رجاءات لطيفة من والدها بالاكتفاء بهذه الحوارية التي انقلب فيها وضعي من صحفي اعتاد ان يسأل عن كل شيء ، الى(مسؤول) عن كل شيء يتعلق بمهنته ، سعدت كثيرا بأسئلة الصغيرة ، وفهمت من والدها ان هذا هو من صميم منهج الامريكان في المدارس..ان يعلموا الاولاد ويعودوهم على النقاش والسؤال والحوار ، بدلا عن تلقين المسلّمات. عقول على الأرفف من المعالم المهمة في واشنطن ، البيت الابيض ذو اللون الرمادي والكونجرس الأمريكي ، وهناك ايضا مبنى وزارة الدفاع الشهير بالبنتاجون ، ولكن من بين هذه الاماكن المهمة فإن الكثيرين يفضلون زيارة مكتبة الكونجرس الامريكي ، التي هي بحق تحفة في كل شيء. كانت زيارتي عجلى لمكتبة الكونجرس ، تحققت فيها من عظمة ما يضمه المبنى ، ولكن فاتني التحقق من تفاصيل ما تضمه المكتبة ، ولم يسعفني إلا الامريكان انفسهم عبر محرك قوقل الذي يقول(مكتبة الكونغرس ، هي المكتبة الأكبر ، والأكثر تكلفة ، وأماناً في العالم. هكذا نقشت هذه العبارة على قبة مبنى تومس جيفرسون ، وهي البناية الرئيسية لمكتبة الكونغرس ، التي تعتبر من المعالم البارزة في عاصمة الولاياتالمتحدةالأمريكية ، واشنطن ، حيث تبلغ مساحتها 39 هكتاراً ، وطول رفوفها 856 كيلو متراً ، تضم المكتبة 130 مليون مادة مختلفة ، منها 29 مليون كتاب ، ومواد مطبوعة ب 460 لغة ، وأكثر من 58 مليون وثيقة. تُعَد المكتبة أكبر مرجع في العالم للمواد القانونية ، والخرائط ، والأفلام ، وحتى المعزوفات الموسيقية. أسست المكتبة في العام 1800 م. لتخدم أعضاء الكونغرس الأمريكي. بدأت المكتبة آنذاك بخمسة آلاف دولار. يعود الفضل في إنشاء المكتبة للرئيس الثالث للولايات المتحدة ، توماس جيفرسون الذي كان متعدد المواهب ، فكان كاتباً و دبلوماسياً و قانونياً ، ومهندسا. وكان لهذه المواهب المتعددة السبب الرئيسي في اختياره نائباً للرئيس الثاني لأمريكا) . وعلى ذكر جيفرسون هذا (وهو الرئيس الثالث للولايات المتحدة - توفي في العام 1826)، ففي جانب من المكتبة جناح مخصص لكتب هذا الرجل ، وعلى صدر الجناح كتبت عبارة جيفرسون الخالدة :(انني لا استطيع العيش بدون كتاب)..الجدير بالذكر ان كتب هذا الرجل كانت بمثابة تعويض للمكتبة عما فقدته جراء حرقها في اوائل القرن التاسع عشر ، وهذا وحده يكفي للدلالة على الكم الهائل من الكتب التي كان يقتنيها هذا الرئيس في ذلك العصر البعيد نسبيا(حوالي قرنين من الزمان). مكتبة الكونغرس ليست كلها مخطوطات وأوراق ومجلدات ، ولكن تمت(رقمنتها) فهي الى جانب ما تزخر به من كتب في نسختها الورقية التقليدية ، استجابت لروح العصر وضرورياته فتحولت ايضا الى مكتبة رقمية حديثة..ولمكانة المكتبة التوثيقية العالية فإن الزوار يقصدونها من شتى انحاء العالم ، لا لتحدثهم عن تاريخ امريكا فقط ، ولكن لتحدثهم عن تاريخ بلدانهم ايضا .. وفيما يخص السودان ، علمت ان للمكتبة متعهداً هنا في الخرطوم يوافيها اولا بأول بالكتب التي تصدر هنا في شأن السودان. الغربيون يقولون إن الكتب ليست مجرد اوراق ميتة ولكنها عقول تعيش على الأرفف ، هذا هو ما تفعله مكتبة الكونجرس ، انها تحفظ هذه العقول ، ما عليك إلا ان تستنطقها فتنطق وتخبرك بما تستخبر عنه.