كان السودان ولا يزال رافداً لغيره من الدول بالكوادر المؤهلة في شتى المجالات، خاصة التعليم. وتعتبر السعودية واليمن من أكثر الدول التي استوعبت أعداداً هائلة من معلمي مرحلة الأساس.. الآن بدأ أساتذة الجامعات يسلكون الطرق التي سلكها إخوانهم في تلك المرحلة، وفي هذا خطر كبير، خاصة إذا علمنا أن مكاتب الاستخدام الخارجي دائماً تزدحم بمن يرغبون في الهجرة بحثاً عن وضع أفضل بعد أن يئسوامن تحقيق طموحاتهم بالداخل أبسطها بيئة صالحة للتدريس، وتمكنهم من الإشراف على بحوث طلابه ناهيك عن توفير احتياجاتهم الأساسية وحياة كريمة لهم ولأسرهم . هجرة الأستاذ الجامعي ظاهره تستحق الوقوف عندها ليس كونها ظاهرة غير صحية فحسب، بل لأنه ليس هناك كلية بعينها تعنى بتخريج أستاذة جامعيين كما في التعليم العام. إضافة إلى أن تلك الكوادر عمل صعبة والتفريط فيها يؤدي لعواقب وخيمة. تكالب على مكاتب الاستخدام الأستاذ الجامعي دكتور «ع .ع .خ» الذي فضل الرمز لاسمه بالحروف الأوائل فقط، تحدث عن حجم هجرة الأساتذة الجامعيين بقوله: «في الآونة الأخيرة شهدت الجامعات السودانية ما لم تشهده من قبل، بهجرة أساتذتها الأكفاء، الأمر الذي يؤرق مديري الجامعات، خوفاً من فقدان تلك الكوادر المؤهلة في ظل تكالب دول بعينها على الأساتذة السودانيين لسمعتهم الطيبة التي اكتسبوها منذ زمن ليس بالقريب، ومن ثم لا يجد الأساتذة بداً من الموافقة على الانتداب خاصة في ظل المرتبات والحوافز المغرية التي لن يستطيعوا إدراكها ما بقوا بالداخل، فالأساتذة لم يعودوا قادرين على العطاء، لأنهم لا يملكون ما يجعلهم مستقرين، وبالتالي قادرين على البذل والعطاء، وهذا مؤشر خطير لأننا سنفقد أهم شريحة في المجتمع، فهم الذين يتخرج على يديهم الأطباء والصيادلة والمحدثون والعلماء و نحو ذلك، بينما الدول المنتدبة تعمل على توطين التعليم في بلادها بغرض توفير الأكفاء من الأساتذة وبرواتب عالية جداً مما يؤدي لتكالب الأساتذة علي وكالات الاستخدام الخارجي. الداء والدواء وحسب محدثي، هناك عدة عوامل أدت لهجرة الأستاذ منها ضعف الرواتب مستشهداً بالمملكة العربية السعودية التي يتقاضي فيها الأستاذ الجامعي «12000»ريال، بما يعادل «200/19» جنيه سوداني أي 9 أضعاف الراتب السوداني، إضافة للزيادة المضطردة في متطلبات الحياة يوماً بعد يوم، والتي لا يملك الأستاذ أبسطها في الغالب الأعم، بينما يملك أستاذ مرحلة الأساس في تلك الدول أفضل من مدير جامعة بحالها، هناك أسباب أخرى منها ضعف التأهيل العلمي بسبب كثرة العمل من أجل تحقيق الكفاية مما يضعف البحث العلمي. ويرى دكتور «ع .ع» أن الحل يكمن في زيادة الرواتب وحل مشكلة سكن الأستاذة، وذلك بتمليكهم منازل بالتقسيط المناسب إضافة لعمل مشروعات استثمارية تدر دخلاً للأساتذة وتصميم مشروعات تأهيلية لهم ودعم بحوثهم العلمية وإتاحة الفرص لهم بالمشاركة في المؤتمرات الداخلية والخارجية. خلل في التكوين الإداري رئيس قسم التدريب بجامعة القرآن الكريم دكتورة عفاف عبد الله أرجعت اتجاه أساتذة الجامعات للهجرة لبعض الأسباب منها على سبيل المثال لا الحصر الوضع الاجتماعي للأستاذ الجامعي إذ لا يعقل أن يتزاحم مع طلبته على المركبات العامة، وأن يتصيده صاحب المنزل كل شهر يريد إيجار المنزل. فعلى الدولة أن توفر لهم على الأقل احتياجاتهم الضرورية. سبب آخر ساقته دكتورة عفاف هو الخلل في التكوين الإداري، حيث تجد صاحب درجة علمية أقل يرأس من هم أعلى منه في الدرجات، لذلك يسعى الأستاذة لمكاتب الاستخدام الخارجي للبحث عن فرص أفضل. دكتور أحمد الطيب اتفق معها في عدم وجود سكن وترحيل ورواتب مجزية، وقال: «إذا كان الأساتذة في بداية مسيرتهم فيحتاج لسنين عدداً حتى يؤهلوا أنفسهم. البيئة منفرة نقطة أخرى لفت إليها دكتور أحمد أن البيئة الجامعية منفرة جداً نسبة لتزايد عدد الطلاب وضيق القاعات وانعدام الوسائل المساعدة للتدريس من معامل وغيره، فهذه إشكالية لا بد من حلها. وأضاف أن نقابة عمال التعليم العالي حاولت حل بعض القضايا بما تستطيع منها السكن ولكن شروط الإسكان حالت دون ذلك. اخرجوه من الخدمة المدنية أما أستاذ القانون دكتور خليل حسن الخليفة، فله رأي مختلف عن زملائه، إذ يعزو زهد الأساتذة في الجامعات السودانية لروتينية العمل داخل الخدمة المدنية العامة، وعدم تطورها. إضافة للبطء الذي تتسم به، وهذا ينعكس على أداء الأستاذ الجامعي باعتبار أن مهامه علمية فنية من حيث الأصل وليست إدارية، ولكن نجد أن الإدارات تتحكم في عمل الأستاذ الجامعي ذي الطابع العلمي، وتضع العراقيل في طريقة أداء عمله، ويرى خليل أن ظروف الخدمة المدنية لا تتسق مع مهام الأستاذ الجامعي«طبيعته ، طريقة تفكيره،مكانته العلمية وقيمته الفكرية» ويعتبر تبعيته للخدمة المدنية العامة أكبر أخطاء ومسقطات النظام الخدمي في السودان. وقال إن الدولة تهتم بشرائح أخرى. أما الأستاذ الجامعي فلا يشغل فكرها، فهي تستجيب لمتطلبات وتضع موازنات على أصعدة سياسية شتى، ولكنها تشيح وجهها عن متطلبات الأستاذ الجامعي، فكيف لا يهاجر؟! قوانين منظمة دكتور خليفة يقدم مقترحاً للحل يتمثل في رفع نسبة الصرف على التعليم في الموازنة السنوية، والتأكد من تسخيرها في الأوجه المحددة والاهتمام ببيئة التعليم الجامعي على الأقل كفالة القاعات التي تجعل الأستاذ الجامعي يعتبر الجامعة بيته وليس كابوساً يسعى للفكاك منه، إضافة لاستثناء الأستاذ الجامعي من قوانين الخدمة المدنية العامة، وهذا مطلب نادى به الكثيرون عبر الورش والجلسات التي انعقدت، ووضع قواعد خاصة تنظمه وتحكم مهنة التعليم الجامعي. وطالب خليل الدولة برفع وعي قياداتها بدور الأستاذ الجامعي الأمر الذي ينعكس إيجاباً على وصفه الذاتي والاجتماعي. أسأل مجرب وقفنا على تجربة أحد الكوادر السودانية التي هاجرت وهي تجربة الدكتور عوض الفادني مدير إدارة التدريب بجامعة أمدرمان الإسلامية، الذي قال إن الظروف الاقتصادية التي تحيط بالأستاذ الجامعي هي التي دفعته للهجرة، لأن العمل بالسودان غير مجز. وأردف: «كنت منتدباً بإحدى الدول العربية، وجدت فيها بيئة عمل جيدة وكل معينات العمل متوفرة، إضافة لإتاحة فرصة عمل في إطار وظيفة غير مسيسة، كما أن السلم التعليمي منضبط بتلك الدولة، إلا أن هناك عيوباً للهجرة. فتلك الدولة نظامها التعليمي نظام جامد ولا يتيح فرصة للإبداع والابتكار. ضمانات وضوابط المدير السابق لجامعة النيلين بروفيسور حسن الساعوري بين في ندوة «هجرة الأساتذة، الأسباب وفرص العودة» أن الجامعات لم تمنع أستاذاً من الخروج، وهنالك بعض الضوابط جاءت بعد أن استشعرنا بالخطر ولم يصدر قرار بوقف الهجرة وتساءل: «هل نفتح الباب حتى يعود علينا بالعملات الصعبة؟» فإذا سمحنا لهم بالخروج ولم ندرك خطر خروجهم زرافات، ولم نقدم لهم ضمانات ونضع ضوابط لمنعهم خاصة أساتذة جامعة الخرطوم والنيلين وأم درمان الإسلامية والسودان والقرآن الكريم، سنجد أنفسنا مضطرين للاستعانة بالمعاشيين، خاصة بعد قرار رفع سن المعاش حتى 65 سنة والاستعانة بكل من حملة الماجستير والدكتوراه ليساعدوا في سد الفجوه. وزاد أن الخطر ليس في من ذهبوا، لكن في من يتبعهم ويبقى التحدي في إحساس الأستاذ الجامعي بعدم الاستقرار في أوضاعه. أعداد مخيفة مصدر مطلع بوزارة العمل، فضل حجب اسمه، أفادنا أن هناك اعداداً مخيفة من من أساتذة الجامعات خرجت عبر الوزارة للخارج، وبين أن المملكة العربية السعودية هي أكثر الوجهات التي تتجه صوبها تلك الكوادر، ودائماً الأستاذ هو من يبحث عن الفرص داخل أروقة مكاتب الاستخدام الخارجي، فكاكاً من الوضع الراهن في الجامعات السودانية. ليسوا استثناء مدير إدارة العمل والعمال بجهاز تنظيم شؤون السودانيين بالخارج ذكر أن جهاز المغتربين يتعامل مع هجرة الأساتذة كهجرة كل قطاعات المجتمع، ويحددها بضوابط أو يقننها كهجرة الأطباء إلى ليبيا، لافتاً إلى أن حماية الجهاز للأساتذة تبدأ بعد هجرتهم ووصولهم للدولة التي يقصدونها. نعدكم ! فيما عزا وزير التعليم العالي خميس كنج كندة في ندوة «هجرة الأساتذة الأسباب وفرص العودة» الهجرة لأسباب اقتصادية، لأن ضروريات ومتطلبات الحياة تفرض ذلك. وقال: «نريد الهجرة، لكن بضوابط تليق بمقام الأستاذ الجامعي، وعند عودتهم سوف تستوعبهم الجامعات». وكشف أن الجامعات مازال بها 12000 من الأساتذة ومنهم 10000من حملة ما فوق الماجستير. وقال إن الذين خرجوا يقدرون بحوالي 800 أستاذ، مطالباً بتنظيم هجرتهم وأن يتم عبر الوزارة لضمان حقوقهم وأوصى الأساتذة الذين خرجوا أن يعطوا أفضل «ما عندهم» وأن يعلموا أنهم سفراؤنا بالخارج، وأماكنهم ما زالت محفوظة عند عودتهم. وأكد أن الوزارة تسعى لتحسين ظروفهم المادية وغيرها وهي في طريقها إلى البرلمان لتصحيح الواقع لمزيد من العطا ء والارتباط بالوطن.