إن الإنسان الحادب على المسيرة الإسلامية وعلى نتائجها المعاينة والمشاهدة على الأرض لا يملك إلا أن ينظر إلى الحركات الإسلامية وإلى التنظيمات الإسلامية بإشفاق!! إن الذي ظل يجري في السودان منذ حوالى عقدين من الزمان كان محط أنظار العالم الإسلامي والدعاة فيه بل ومحط أنظار الشرق والغرب على مدى تلك المدة المتطاولة إلى أن جاءت الثورات الشبابية الإسلامية فسرقت منه الأضواء.. لقد جاءت هذه الثورات الرائعة المدهشة فكشفت بعدًا جديداً من الإخفاقات التي يعاني منها العمل الإسلامي كله في كل صعيد.. لقد ظن بعض الناس، وهمًا منهم، أن الأنظمة العربية سوف تخف إلى دعم هذه الثورات لإسقاط أنظمتها وإقامة أنظمة جديدة مختلفة.. ولكن أثبت الواقع أن هذه الحسابات خاطئة... وأن أفضل ما يتوقعه المراقب من هذه الأنظمة أن تكف أيديها وتنتظر الوقت المناسب لتبعث برسائل تهنئة للمنتصر أيًا كان الثورة.. أم النظام.. إن مَقاتِل الإسلاميين ليست في الحكم وحده وإن من قدر الله وقضائه الذي لا يرَد أن تكون مقاتل الإسلاميين في الحكم!! وما كان ينبغي لأمر كهذا أن يحدث أو يكون.. ولكن المثال المشاهد لا يدع لأحد حجة ولا منطقاً.. إلا أن مقاتل الإسلاميين الحقيقية والماحقة هي في مواقفهم بعضهم من بعض.. ومرة أخرى نبحث عن مثال أو عن شاهد فنجد المثال السوداني هو الأوضح وهو الأبرز.. كم عدد التنظيمات والحركات الإسلامية الموجودة الآن على الساحة السودانية؟ إن الحركات الإسلامية تتوالد وتتكاثر على الساحة حتى إنك لا تستطيع تتبع توالدها وتكاثرها وحتى أصبحت هي ذاتها تجد صعوبة وحرجًا في إيجاد أسماء لهذه المواليد الجديدة.. وأصبح المراقب في حيرة لا يدرك في كثير من الأحيان من هو الأصل ومن هو الفرع ومن هو فرع الفرع!! ويبدو والله أعلم أنه كلما اختلف قياديان في أمر من الأمور ظهرت حركة إسلامية جديدة.. وليس من الضروري أن يكون الاختلاف في الصفات ولا في خلق القرآن.. ويكفي أن يكون اختلاف في وجهات النظر.. ومع ذلك فهم جميعًا يدعون إلى الوحدة الإسلامية!! هذا التناقض الشديد الذي أوشك أن يجعل كل خطأ في الاجتهاد وأصلاً من الأصول التي ينبغي أن يلتف حولها الناس.. بل أصبح الخطأ بحسن نية مساوياً مساويا للخطأ بسوء نية.. فلم يعد لأحد الحق في الاستدراك على أحد.. ولا في نصحه ولا تصويبه.. ومن هنا تسربت العلمانية إلى صفوف بعض الحركات الإسلامية.. بل أصبحت المقولات العلمانية جزءًا من النظم الأساسية لبعض هذه الحركات مثل الديمقراطية وتمكين المرأة وهلم جراً.. لقد ظلت الحركات الإسلامية السودانية في موقع الريادة والقيادة لأزمان متطاولة.. وهي مطالبة اليوم أكثر من أي وقت مضى أن تمارس ذات الدور في القيادة والريادة فإن زمان السودان قد استدار كهيئته يوم استلم العميد عمر حسن أحمد البشير الحكم يوم 03 يونيو 9891م يومها كان السودان مهيئًا ومستعداً لتقديم الأنموذج الإسلامي الكامل لأهل الأرض جميعًا.. بل كان أهل السودان عامة في أكمل استعداد لاستقبال الإسلام والاحتفاء به نظامًا للحياة ومنهجًا للحكم.. ولكن بقدر من أقدار الله كان إمام المدغمسين هو من ألقت إليه الإنقاذ أو الحركة الإسلامية بأزمتها يوجهها كما يشاء وكما يريد.. ولا معقب.. ولا مشير.. فآل الأمر إلى ما آل إليه.. واليوم.. وبعد الفراغ من نيفاشا وبعد الانفصال.. تعود معركة الهوية إلى الواجهة.. ويجد الإسلاميون أنفسهم في المقدمة.. وفي القيادة.. وفي الريادة.. كل الإسلاميين بلا استثناء ... الذي في الحكم والذين خارج الحكم.. وأهل السودان اليوم أكثر استعداداً من أي وقت مضى لتقبل نظام الحكم الإسلامي بعد أن ذاقوا من نيفاشا الأمرّين والسودان اليوم في مفترق طرق.. والمفتاح بيد الإسلاميين مهما اختلفت أسماؤهم ومسمياتهم.. هناك جبهتان اليوم في الساحة السودانية: المدغمسون والعلمانيون جبهة. وأهل الإسلام السلفي جبهة.. وهم أهل السنة والجماعة.. والمعركة القادمة هي معركة الهُوية.. هي معركة السودان الحقيقية.. هي معركة الدستور.. فإما أن يأتي الدستور القادم مدغمسًا وعلمانيًا.. والعلمانيون أسوة بشيخهم الأكبر يكتفون بأن يأتي الدستور القادم مدغمساً. والدغمسة والعلمانية تأتي في نظام الحكم ومصادر التشريع وتأتي في أبواب الاقتصاد في الأموال وفي التصرفات وتأتي كذلك في أبواب الشأن الاجتماعي.. في الأسرة وفي التعليم وفي الإعلام.. والإسلام السلفي.. إسلام أهل السنة والجماعة لا يعرف الدغمسة وتفر من وجهه العلمانية.. لذلك فهو يقول بأن دين الدولة هو الإسلام ومصادر التشريع في الدولة هي الكتاب والسنة.. ويُبطل كل أمر خالف الكتاب والسنة أيًا كان مصدره.. وفي باب الاقتصاد يقول إن المال مال الله والناس مستخلفون فيه ولا يُجنى مال إلا على الوجه الذي يقره الشرع ولا يصرف إلا كذلك.. ويحرم الربا والاحتكار والبيوع الفاسدة والإسراف ويعقد ولاية الدولة على الأموال التي أقرها الشرع لها ويصرف ولايتها عن أموال المكلفين إلا بحق شرعي أوجبه الكتاب والسنة.. وفي مجال الأسرة يرى أن الأدوار النمطية للمرأة هي مملكتها الحقيقية ومعراجها إلى السماء.. وتمكينها الحقيقي هو تمكينها في دورها النمطي لا في الوزارات ولا في الولايات ولا في القنوات ولا في الطرقات ولا في مجتمعات الرجال.. بل في البعولة والأمومة.. وفي القرار. وكذلك في التعليم وفي الإعلام على منهج السلف في حفظ الدين والنفس والأموال والأعراض والعقل.. فكل ما خالف ذلك فهو مردود.. هذا وغيره وغيره هو ما قالته الجبهة الإسلامية للدستور في مسودتها التي فرغت من إعدادها وتتهيأ الآن لتقديمها لاهل العلم ولأهل الحكم بهذا الترتيب. والإسلاميون اليوم على المجرب .. وللمرة الأخيرة.. أولئك الذين هم على منهاج أهل السنة والجماعة.. في الحكم وفي خارج الحكم.. لا نريد أن يسخر منا علماني أو مدغمس فيقول ليس أسوأ ولا أضر من انبطاح أهل الحكم.. إلا انبطاح أهل العلم.. وأنا أقول إنه إذا انضم إلى هذين أهل الدعوة فقد نودع من الأمة..