قرارات جديدة ل"سلفاكير"    السودان..تحذير خطير للأمم المتحدة    شاهد بالفيديو.. ناشط سوداني يهاجم الفنانة عشة الجبل ويثبت غيرتها من زميلتها الفنانة مروة الدولية: (عرس الدولية حارقك وقاطع قلبك والغيرة دي ما حلوة)    شاهد بالفيديو.. حكم كرة قدم سعودي يدندن مع إبنته بأغنية للفنان السوداني جمال فرفور    شاهد بالصور.. رصد عربة حكومية سودانية قامت بنهبها قوات الدعم السريع معروضة للبيع في دولة النيجر والجمهور يسخر: (على الأقل كان تفكوا اللوحات)    شاهد بالصورة والفيديو.. المذيعة شهد المهندس تشعل مواقع التواصل بعد ظهورها وهي تستعرض جمالها بأزياء مثيرة للجدل ومتابعون: (لمن كنتي بتقدمي منتصف الليل ما كنتي بتلبسي كدة)    هل فشل مشروع السوباط..!؟    بلومبيرغ: قطر تستضيف اجتماعا لبحث إنهاء الحرب بين روسيا وأوكرانيا    سوق العبيد الرقمية!    مخاوف من قتال دموي.. الفاشر في قلب الحرب السودانية    صلاح في مرمى الانتقادات بعد تراجع حظوظ ليفربول بالتتويج    أمس حبيت راسك!    راشد عبد الرحيم: وسقطت ورقة التوت    وزير سابق: 3 أهداف وراء الحرب في السودان    الصين تفرض حياة تقشف على الموظفين العموميين    (المريخاب تقتلهم الشللية والتنافر والتتطاحن!!؟؟    معتصم اقرع: لو لم يوجد كيزان لاخترعوهم    وكالة الفضاء الأوروبية تنشر صورا مذهلة ل "عناكب المريخ" – شاهد    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    دخول أول مركز لغسيل الكلي للخدمة بمحلية دلقو    والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    مروي.. رصد مسيرات فوق ارتكازات الجيش السوداني    إقصاء الزعيم!    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



الدولة المدنية أم العلمانية ليست خيار وفقوس ..(1)
نشر في حريات يوم 22 - 11 - 2010


بقلم محمد عثمان
من الأخطاء الكبيرة، والمدلهمة علينا ،خصوصاً من مثقفي المتوسطي الحال في بلادنا ، أننا نتعامل مع المصطلحات والمفاهيم بلا حجة..نعتقلها أو نسرقها خارج الزمكانات والمسارات الحقيقية التي تطورت فيها تلك المفاهييم .
إن أحد المفاهيم الأساسية بعلم السيموطيقيا (علم الإشارات)أنالثقافة التي يحوم في باحتها المصطلح أو المفهوم ،هو نفسه ليس بوليد صدفة ،بل تلاحم وعراك بين مصالح إجتماعية مختلفة ولو في حقبة تاريخية واحدة..فمثلا لا يجد فينا مصطلح الشيوعية من وعثاء في أن نتقبله ونهلل به إسما لحزبنا ونحلل وننظر حوله..لكن ذات المصطلح ربما يثير الإمتعاض إن ذكرته في حلقة مثلا لأنصار السنة أو تيارات اليمين المختلفة..فالشحن الدلالي للمصطلح يعطي له هالة ترى وفق نظر الرائي وإتجاهاته الفكرية.
أيضا مصطلح الديمقراطية ،ترى الإسلامويون يوصمون أنصارها بالكفر والعمالة والتخوين وهلم جرا..لكن إذا جلست لهم وقلت أن الديمقراطية هي شورى عصرنا..ترى دمعهم منسابا وقلبهم مؤمنا على كلامك، لماذا؟ ببساطة لأن كل مصطلح أو مفهوم يحمل في رحمه بذور العرك التاريخي الذي يرسم في لوحة الإنسانية مساراته المتعددة ،وتقوم الأيديولوجيا بوعيها الزائف كما يقول الراحل محمود أمين العالم بأن تزين لنا الأفكار على أنها الحق الأبلج.
وبلا أسف ..لأن اجتهاد المرء في التفكير لا يؤسف عليه..لكن بما يطل علينا كثيرا من طرح حول الدولة المدنية الديمقراطية ..فإن لنا أن نبين خطورة أن نسوق لنا منهج تفكير يغادر الواقع راجعا القهقرى غير آبه بتطلعات الجماهير وأشواقهم حول العدالة الإجتماعية ودولة المواطنة..دولة الحقوق والواجبات
أولا ،ظل اللغط والخلط اللا مبرر حول مفهوم العلمانية والعلمية ،جزيرة منقطعة لم تصلها تيارات التفكير العلمي الجريء اللا مستكين في مناوشة تصل إلى المخادشة للإتجاهات الظلامية والرجعية اللا عقلانية في الفكر الإنساني من إسلام سياسي ونحوه ،وظل جل تفكير العلمانيين في عالمنا الإسلامي منجرا إلى معركة المصطلحات والدلالات ،فطااشت سهام بعض المنظرين عن العدو الرئيسي وهو الإسلام السياسي ونماذجه ،إلى الدين في ذاته كحقيقة وجود أو عدم، ولأن الحركة المعرفية في السودان ،حركة ضعيفة وغير ثرة، كون أن الحركة السياسية قد حركت عجلة الدولة السودانية سريعاً، فوجدت الحركة التقدمية وعلى رأسها الحزب الشيوعي السوداني نفسها في معارك متتالية..ضد الإستعمار ثم مخلفاته في الديمقراطية الأولى، عبود،ديمقراطية شائهة، نميري، ديمقراطية شائهة وحرب مستعرة بالجنوب ولملمة شتات ،ثم الإنقاذ..فلم ترسخ الأقدام لمعركة فكرية طويلة الأمد، فكانت البراغماتية أداة من أدوات المعرفة منهجاً سائداً وناجحاً في تطوير العمل السياسي للشيوعيين السودانيين(محمد ابراهيم نقد/حوار مع مجلة النهج المصرية)..وفي ظل هذا السكون النظري رمى الشهيد عبد الخالق محجوب بمتحرك (تنمية الخط الدعائي...)كما ورد في وثيقة الماركسية وقضايا الثورة السودانية،إلا أنه وبدل أن يسهم هذا الجهد بدفع الحركة المعرفية للأمام في مسألة تنمية خط علماني ديمقراطي يواجه دعاوى الإلحاد الشائهة والمتاجرة بالدين من قبل اليمين..صار المصطلح ذاته بحاجة ل (تنيمة) بعض أن دخل غرف الإجترار النظري عند البعض وبالتالي شوه وصاروا يتلفتون يميناً بحثاً عن عقلانية أو مدنية يرضونها،هروبا من المواجهة العظيمة !
ثانياً، وتأكيداً لأهمية القراءة التاريخية لدلالات المصطلحات، يجدر بنا الإشارة أن مصطلح علمانية ليس له صلة بقريب أو من بعيد بمصطلح العلمية أو العلم. العَلْمانِيَّة بفتح العين مشتقة من الكلمة عَلْم، وهي مرادفة لكلمة عالَم. قارن الإنكليزية والفرنسية وهما مشتقتان من الكلمة اليونانية: لاوُس/ “شعب"، “رعاع" أي عكس “الكهنة" وهم النخبة في الماضي. من ثم صارت الكلمة تدل على القضايا الشعبية “الدنيوية"، بعكس الكهنوتية “الدينية".تقول دائرة المعارف البريطانية مادة “Secularism “: “وهي حركة اجتماعية، تهدف إلى صرف الناس، وتوجيههم من الاهتمام بالآخرة، إلى الاهتمام بهذه الدنيا وحدها، وذلك أنه كان لدى الناس في العصور الوسطى رغبة شديدة في العزوف عن الدنيا، والتأمل في الله واليوم الآخر، وفي مقاومة هذه الرغبة طفقت ال Secularism " تعرض نفسها من خلال تنمية النزعة الإنسانية، حيث بدأ الناس في عصر النهضة يظهرون تعلقهم الشديد بالإنجازات الثقافية والبشرية، وبإمكانية تحقيق مطامحهم في هذه الدنيا القريبة.
أما العقلانية – وهي ماسنتناوله في مقال لاحق-التي يدعو لها بعض الشيوعيين السودانيين (كمال الجزولي-الدين والدولة)،والدولة المدنية الديمقراطية (تاج السر عثمان بابو)فإن القول بتوافق وإستبدال مصطلح العلمانية بأي منهما فإن أمر لايقره منطق وإن هوى لايجد قاعا وهو من باب [ لا حجة على أهل الشام، لكن الفتى مقتول]! فبينما نشأت العلمانية من موقف نظري أقرب للسياسة والثورة..كان إنطلاق العقلانية في الفكر الإسلامي من علم اللغة ومنظروه الأوائل ابن سيار النظام، واصل بن عطاء، هشام الفوطي، الإسكافي، الجبائي وغيرهم من حيث أنه يخوض في العلاقة التي كانت تشكل أزمة فكرية لدى المسلمين آنذاك:الإلهيات والطبيعيات.
ثالثا ، فإن الإضطراب في تناول هذا المصطلح وإستخداماته في العالم العربي والإسلامي كثيرة، فكثير من المفكرين المستنيرين يرفضون إستخدام مصطلح علمانية فيرفض المفكر المغربي محمد عابد الجابري تعريف مصطلح العلمانية باعتباره فقط فصل الكنيسة عن الدولة، لعدم ملاءمته للواقع العربي الإسلامي، ويرى استبداله بفكرة الديموقراطية “حفظ حقوق الأفراد والجماعات"، والعقلانية “الممارسة السياسية الرشيدة"
إذن ما دامت العلمانية بمسارها التاريخي المعروف لنا في أوربا ،كانت فكاكاً وطلاقاً بائنا مع الكنيسة ليس بإعتبارها ممثلة للمسيحية بل لدورها المناهض لتقدم تلك المجتمعات وتحالفها الشائن مع طبقة النبلاء ،أي أن الموقف النظري الذي بنيت عليه الحركة العلمانية الأولى في أوربا إنطلق من نقد الكنيسة وظيفياً لدورها في جهاز الدولة..فإن لنا ذلك التساؤل المشروع :هل للمسجد ،في السودان هذا الدور أيضا؟
إن التطور التاريخي الذي خاضه الإسلامويون في السودان يوضح بجلاء ،حالة من الفصام بينهم وبين الطرق الصوفية أو معظمها ،فقد جاءت الحركة الإسلامية ووجدت أن الحزبين الكبيرين الإتحادي، والأمة قد اقتسما جزءا كبيرا من النفوذ الصوفي، وبقي جزء آخر ينظر للإسلام (الحركي) على أنه حركة أفندية لم ينسرب بين يديهم وهم يرون زعامات البلاد آنذاك قد خرجوا برضاهم هم..كذلك تأثر تيار من الإسلامويين بالسودان بالثورة الإيرانية والتفكير المنفتح والنظري المفرط من جانب ،باعد الشقة بينهم، لكن الغالبية المؤثرة والقيادة ذهبت أيام الديمقراطية الثالثة إلى نوع من دعاوى التوحيد والتجبيه المعتاد وهذه المرة نجح الحشد في ظل مواجهة عدو مشترك (الحركة الشعبية والتخويف بالعلمانية)..وإلى قيام الإنقاذ ظل الإسلام السياسي تيارا سياسيا ذا دور لكنه ضعيف فكرياً لولا مساهمات د.الترابي..لكن لم يكن مؤسسة متكاملة موازية للمؤسسة السياسية، بل على العكس ظلت حالات الزهد الروحي تؤسس دولة التقوى بالإنسان داخلياً ،فلم يكن هناك إقبال كبير على تحويله لدولة حقيقية ونظام سياسي ،خصوصا في ظل إنعدام النموذج المبشر(قبل الثورة الإيرانية)...لم يكن للمسجد (كمقابل للكيسة وظيفياً) ذاك الدور الملموس في التأثير على الحركة السياسية .
إذن..هل لنا بالقول باتساق الخطاب المنادي بسودان علماني مع الضرورة الواقعية لهذه الخصوصية السودانية؟نعم..ولا في نفس الوقت..لا لأن العلمانية بدلالاتها المغروسة والقادمة عبر البحار ، لا تعبر عن الإحتياجات التي يمليها الواقع كذلك تختلف في بنيتها الفكرية والثقافية والتاريخية والإجتماعية عن الحالة التي نحن فيها هنا..نعم..لان الحاجة للعلمانية موجودة..لكن ليست علمانية أوروبية ..ولا علمانية تركية..ولا علمانية الهند..
والسؤال المهم الذي يفرض نفسه هو أيضاً :هل معنى إختفاء الكنيسة أو الإكليروس من منظومة الدين الإسلامي(وليس المنظومة الفكرية للإسلام السياسي) ،يعني عدم توفر الأساس المنطقي والنظري لإستدعاء العلمانية ،كمطلب عادل وأساس ليس في برنامج حزب كالحزب الشيوعي السوداني،بل كمايحلو للبعض كجزء من(السياسي اليومي)في بلادنا؟
من الأشياء التي ساقها محمد عابد الجابري في مؤلفه(الدين والدولة) أن إختفاء الكنيسة من الإسلام تشكل المنطلق النظري الأساس في دعواه بعدوم منطقية العلمانية واتساقها في العالم الإسلامي..ويبدو من خلال هذه الدعوى الأبستمولوجية مكتملة الدسم ،تخفي في تلافيفها أيديولوجيا مسكوتا عنه، ترافق في تلك الفترة الزمنية(كان الحديث جزءا من حوار بين الجابري وحسن حنفي ) وهي فترة صعود مايسمى بالأصولية الإسلامية..ظن الجابري كما يرى في ذلك أيضا الكاتب العربي(جورج طرابيشي) ،أنه يستطيع لجم الخطاب الأصولي بالتكلم بلغته ،ولو من منظور تكتيكي..
لكن بذلك يبدو الأمر كأننا ندعو لأن نفتح حدودنا لمنظومة فكرية (الإسلام السياسي) هي في واقع الأمر من حيث تدجيلها وتسويقها للقهر والتخلف لأشد وأنكى من طبقة الإكليروس، فالكنيسة إن شكلت مكانا جغرافيا ومعماريا في الدين المسيحي وممارسته التاريخية ،لكن واقع(التدين) في الإسلام يحول(المسجد)إلى حالة من التعبد الدائم في حياة المسلم،وهو ماينظر له كل منظري التيارات الإسلاموية خصوصا الأخوانيين من حيث يستدلون بقوله تعالى:(فل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين..)..لذا فإن الغرض الذي يجب أن يجابه هو واحد تاريخيا..محاربة القهر بإسم الدين..ودعم حركة التقدم الإجتماعي والحرية الشاملة.. فالمسجد إذن كما الكنيسة يتم تشويه دورهما عبر منظومة فكرية سواء كانت تتماهى مع وعي أيديولوجي زائف أم لا..يفرضان تلك الضرورة ذاتها وبإختلاف الزمان والمكان ..أي ضرورة المجابهة..وليس بالتالي إلى الهروب إلى ظل متهالك، يتم التعامل هنا مع الفكر كالسياسة بالتكتيك وهو أمر غير مستصوب ..
طوال التاريخ السياسي السوداني بعد الإستقلال ، لم يكن-والحق يقال-لمنظومة الدين أي أساس في خلق تفرقة أو تمييز كما كان للعرق في ذلك دور ..أحيانا يرفق مع التمييز العرقي موضوع الدين كنوع من التدعيم لكنه لم يكن أساسا،ولا كان توجه نظام عبود في سياسة التعريب دعما لإتجاه ديني بقدر ماهو تعبير عن حالة إستعلاء عرقي لمؤسسة الإستعراب بالسودان وتيارات القومية العربية..وكذلك مايعرف بمسودة الدستور الإسلامي عقب ثورة أكتوبر ومؤامرة حل الحزب الشيوعي..كليهما وجد الرفض الجماهيري المحسوس ،والذي يمكن تلمسه بالتعاطف الشعبي المبكر مع ماطرحته مايو من شعارات تغيير وتقدم إجتماعي..لكن من ناحية أخرى ظلت جمهورية السودان (ديمقراطية)وفق دساتيرها المختلفة مدنيا وعسكريا..لكنها لم تنتسب لوصفها بأنها إسلامية بشكل واضح إلا في ظل دستور 1998..كل هذا لم يطرح ضرورة عملية قبل هذا التاريخ لخلق خطاب علماني خارج من إجترارات تنمية الخط الدعائي ومماحكات الشمولية،وإرهاق(العمل السري)،ورهق (المناشير)..كل هذا لم يفسح المجال لتراكمات معرفية مقابلة للخطاب الإسلامي الذي وجد في المعتقلات والسجون براحا لينمو وينضج على نار هادئة ،ووجد فترة(تمكين)تحولت فيها النظرية إلى ممارسة..هذا وإن شكل عذرا ما لضعف الخطاب العلماني،لكنه لايبرر الفرار الفكري من سوح صراع الأفكار بين اليمين واليسار،فيتحول الحديث بين العقلانية،والدولة المدنية ،لضرب من مناطحة الصخر ليوهي قرنه الوعل ،واللجوء المتعسف لتكتيكات الإحالة والمقابلة في تعليل (الطرح التحويلي) كما يسمية الأستاذ كمال الجزولي تبريرا لموقفه المسوق للعقلانية،وفطرية النزوع للدين،والتبرير التاريخي فقط لكون أن مصطلح الدولة المدنية أقدم من العلمانية وأقرب لممارسات الحكم في المجتمعات الأولى بالسودان كما ينحو الأستاذ تاج السر عثمان ..فنحن أولا لا نسعى لخلق خطاب إسلامي يفكك خطابا مقابلا له كما العقلانية كمنج في علم الكلام الإسلامي..ولا نحن نتوقف في محطات التاريخ ولا ننظر للأمام حتى نهلل للدولة المدنية،ولو ألصقنا لفظ الديمقراطية بها (بصباع أمير)!
إن المنادين بالدولة المدنية الديمقراطية ،يتجاهلون الدلالة التاريخية للمصطلح ،فإن الضرورات التي استدعت نشوء مفهوم (الدولة المدنية) كمقابل للدولة العشائرية(على الرغم من التناقض الجلي بين الدولة والعشيرة)لكن المقصود بها الدولة التي لا تحكم على أساس مميز كالعشيرة أو العرق..ثم بعد ذلك دخلت في باب التمايز بين الدولة التي يحكمها المدنيون والدولة التي يحكمها العسكر..أي أنها صفة تبين أساس ونظام الحكم..ويبدو أن المنادين بالدولة المدنية إختلط عليهم مفهوم(المجتمع المدني)كأساس للديمقراطية(المستدامة)و(المستقرة) كمؤسسة فاعلة في تمتين أسس(المؤسساتية) في الدولة وفق المفاهيم الحديثة..كذلك مفهوم(المدني)في السودان قد دخل من باب آخر،وهو باب القضاء عندما جاء القضاة المصريون بواكير الحكم الإستعماري ووضعوا مايعرف بالقضاء المدني مقابلا للقضاء الشرعي القائم –آنذاك-على المذهب الحنفي كما وفد من مصر.
والمسألة المهمة المرتبطة بضرورة التمايز النظري بين التيارات التقدمية والرجعية ،تنعدم إنعداما تاما ،مهرولا نحو فك الإرتباط بكل قيم التقدم الإجتماعي والهجرة(سلفا)..فإن كنا نتحدث عن (دولة مدنية)ونرفعها شعارا لحزب(علماني) ..فأين الخلاف إذن مع الفكر الإسلاموي مثلا ،ما خطه الأستاذ رفيق حبيب أحد منظري جماعة الإخوان المسلمين في مصر : (مدنية الدولة لا خلاف عليها، وجماعة الإخوان المسلمين، وكل الحركات الإسلامية، لم تعرف فكرة الدولة الدينية المستبدة، والتي تحكم بالحق الإلهي المطلق، ولم تعرف بالتالي الحاكم الذي يحكم باسم الله. والدولة المدنية هي دولة المجتمع، وهي وكيل عنه، تلتزم بقيمه ومرجعيته، ويقوم الحكم فيها علي الوكالة عن المجتمع، ويصبح الحاكم وكيلاً، والدولة وكيلة. وفي الدولة المدنية لا مكان للاستبداد أيا كان نوعه أو مبرره، وفي الدولة المدنية أيضا لا مكان للحكم العسكري أو الديكتاتوري. الدولة المدنية إذن، هي دولة تقوم علي ولاية الأمة، وعلي مبدأ أن الأمة مصدر السلطات، وفيها تختار الأمة مرجعيتها ودستورها، وتختار حاكمها وممثليها. ولا خلاف بين التيارات السياسية حول تلك الدولة، ولكن ممارسات بعض النخب العلمانية تهدم أسس الدولة المدنية، عندما تضع شروطا لمدنية الدولة، يتضح منها أنها دولة مدنية، ولكن علمانية، وتلك هي المشكلة) .ندعم هذا الكلام أيضا بعبارة خطها الأستاذ فهمي هويدي أحد المشجعين للمشروع الحضاري بالسودان وهو يقول: فإن الدين الإسلامي لا يعرف (مؤسَّسة دينيَّة)، ولا (رجال دين)، ولا (سلطة دينيَّة) .. إذ أن (الدّين) يظل مجموعة من (القيم) .. التي (تستلهم) في عمارة الدنيا والآخرة ، ومن ثمَّ ينبني عليها مجتمع (مدني) .. (الأمَّة) فيه (مصدر) السُّلطة، و(الناس) .. (حُرَّاسه) الحقيقيُّون)
-حوار مع مجلة(المجلة)1995.
إذن..أ كل العرك النظري والفكري والسياسي بين الإسلامويين والتقدميين ،يروح بقدر قادر(شمار في مرقة)؟إن التوافق الأساس في طرح الدولة المدنية كبرنامج أو مانفستو حزبي ، حتى لو شذ فيه إختلاف على مستوى التفاصيل فإنه لن يكون كبيرا..وقد ذكرنا أن قطاعات كبيرة من الشعب السوداني قد رفضت المهازل التي تمت باسم الدين من مسودة الدستور الإسلامي،قوانين سبتمبر1983،وحتى نظام الإنقاذ ومشروعه(الحضاري)ذاته..وبالتالي إنطلق موقف تلك الجماهير من أساس رافض للمشروع الديني قبل رفضهم للشمولية ،فحل الحزب الشيوعي ،والدستور الإسلامي كليهما جاءا في ظل نظام ديمقراطي..وفي دولة(مدنية)..وليست أنظمة عسكرية..فبالتالي تملكت تلك الجماهير(المسلمة) سلاح الوعي واتخذت موقفا معارضا لتلك الأحاث التي جرت في ظل(الدولة المدنية)،يذكر الأستاذ كمال الجزولي في ورقته(الدين والدولة): (..وكمساهمة في هذا الإتجاه طرحنا ومازلنا نطرح مصطلح وتصور الدولة المدنية تجاوزا للجدل والمماحكة حول مصطلحات (دولة دينية،دولة علمانية،دستور إٍسلامي،دستور علماني) واستطرادا لا نرى مسوغا أصلا للتقيد بحرفية مصطلح(علمانية)،وما اذا كان بكسر العين أم بفتحها ، وإنما تعطي الأسبقية للديمقراطية كحقوق وحريات ،وكنظام حكم،ومؤسسات..)(ص5).
حسنا، إذا أسمينا مثلا النار إسما غير إسمها هذا،فإن هذا لن يحدث أي تغيير في تركيبة النار..لكن بالتأكيد سيخلق صعوبة في التواصل مع باقي العالم لكي تشعل قطعة حطب مثلا ،لأنك غيرت المصطلح المتوافق عليه عالميا..مصطلح (العلمانية) هو هنا المصطلح المقترح تجاوزه..صحيح أننا نطرح العلمانية كخطاب يحتوي على ذات البنية(الديمقراطية) ممايزا لأنظمة علمانية إستبدادية كثيرة في المنطقة والعالم..وصحيح أن قضية وضع الدين في الدولة لم تثر بهذه الحدة إلا في إتفاقية نيفاشا وقبلها إتفاقية أسمرا للقضايا المصيرية..وإعلان نيروبي1993..لكن طرحها على أساس أنها:(..كلها محاولات جادة لتجاوز أزمة(الدولة الدينية) في وطن متعدد الأديان والمعتقدات..) (نفس المرجع،ص 6) هو ليس تجاوزا للأزمة حقا ،بقدر ماهو تجاوز للحساسية (المفتعلة) والتي تزكيها آليات الخطاب الديني ،المملوك لدى أساطين النظام طوال فترة هذا النظام..كذلك هو الحديث عن التيار(العقلاني)..فالعقلانية صحيح أنها من رحم الفكر الإسلامي وتطوره التاريخي ،لكن وضعه بلا أساس نظري ليشكل خطابا منظرا لوضع الدين في الدولة والحياة السياسية ،هو أيضا منا باب الإشاحة والفرار الكبير بلا(جَلَد) من معركة(الأفكار)التي كررنا مرارا وتكرارا أنها لا تخضع لتكتيكات سياسة(الله يسامحك)و(العفو والعافية)السودانية بإمتياز !
وبين دولة مدنية،وتيار عقلاني، يتقرب له زلفى مرضاة (التكتيك)أرى وثيقة(الماركسية وقضايا الثورة السودانية) ،يتيمة الأم والأب، معلقة ،لا هي ترتضي أن تُنسى،ولا لها أن تحتل حيزا من التنظير الجاد..تذكر الوثيقة في إحدى عباراتها الوضاءة: (فعلى الرغم من كل العقبات، استطاع الحزب الشيوعي بدفاعه عن الحياة السياسية العلمانية، و اعتماداً على ذاته في النضال دفاعا عن مصالح الجماهير، و تجارب هذه الجماهير معه، أن يواجه الموجات العاتية و أن يحسر هذه الهستيريا الرامية لتضليل الجماهير)
والأمر الأكثر مرارة،أن الوضع والظرف الزمني الذي خطت فيه الوثيقة ،كانت قوى التدجيل بإسم الدين ، يعلو صوتها وقوى التخلف المضادة للحركة(التقدمية) الغضة اليانعة،لكن القوية،والمدفوعة برياح التغيير(الأكتوبرية) ،وتقلبات التحرر الوطني واليسار والثورة الإشتراكية في كل أرجاء العالم..كانت هذه الكلمات مشهورة بلا مراءاة ،ولاتسويف ،ولم يجد حولها من يلتف داعما خارج الحزب..واليوم نستطيح تحسس براح تتمدد فيه حركة(علمانية)من المثقفين ومؤسسات مجتمع مدني ،وحركات مقاتلة بالأقاليم(على رأسها الحركة الشعبية لتحرير السودان بالمانفستو القديم وأحلام السودان الجديد)..والزخم الذي تتمتع به العلمانية في العالم أجمع،لنفاجأ بعد مايقارب الثلاث وثلاثين عاما ،بتحول النضال والدفاع عن(العلمانية) إلى مجابهة(التفسخ)و(الإنحلال) في المجتمع وحشد قوى الإستنارة دفاعا عن (الدولة المدنية الديمقراطية)..إن المعركة في مواجهة مشروع(الدولة الدينية) معركة مبدئية غير قابلة للمحاصصات (البايخة) ،وتستلزم معركة تسبقها وهي معركة ترتيب الأولويات..وليس التلاعب الفيلولوجي(دراسة التغيرات في اللغة)..


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.