منذ أن أدى الأستاذ علي عثمان محمد طه القسم بعد إعادة تعيينه نائباً أولاً لرئيس الجمهورية، ظل سيادته في حالة عمل ميداني وزيارات متصلة، وسجل زيارة لولاية النيل الأزرق، وكان في إحدى خطبه التي ألقاها هناك حماس، وكانت كلماته كالسكين، والمعروف أنه سجل قبل عدة شهور زيارة لذات الولاية على عهد واليها السابق الذي تمرد وحمل السلاح وتمت إقالته، وكان من المفترض أن يخاطب النائب الأول لقاءً جماهيرياً بالدمازين، ولكن الوالي المُشار إليه كان يضمر شراً، وسعى لحشد أكبر عدد وشحنهم شحناً عاطفياً لترديد هتافات تخدم خط الوالي المتمرد، وعندما أحس النائب بالمكيدة الماكرة قطع زيارته وعاد للخرطوم بدعوى ان أمراً عاجلاً في المركز اضطره للعودة، ولا ريب أن النظام قد تساهل كثيراً ومد حبال الصبر لعقار وزمرته دون جدوى. وكان ينبغي تسريح المليشيات المتمردة ودمجها في القوات النظامية أو إيجاد بدائل للذين لا يتم استيعابهم في تلك القوات، لأن وجود مليشيات تحمل السلاح يعني وجود دولة داخل الدولة، ومن الواضح أن عقار وزمرته وفيهم بعض المتهورين الذين عرفوا بتصرفاتهم الرعناء وتصريحاتهم الهوجاء، كانوا يحرضون ويحرصون على عدم حل المليشيات الحاملة للسلاح، وكانوا يعيشون في أحلام وأوهام، وأخذوا يتحدثون عن الجنوب الجديد ولا يعنون بذلك وصفاً جغرافياً، إذ أن أية دولة في العالم تكون فيها كل الاتجاهات الجهوية الجغرافية « جنوب، شمال، شرق، غرب ووسط»، ولكن جنوبهم الجديد المزعوم يقصدون به فرض واقع سياسي جديد، ويهددون بأنهم عن طريق المناوشات العسكرية سيحدثون فوضى ويضطر النظام الحاكم للتفاوض وإبرام إتفاقية معهم تماثل إتفاقية نيفاشا، أي أن هذه القلة أرادت باسم الجنوب الجديد المزعوم أن تحل محل الجنوبيين، وتشغل في الشمال المواقع السيادية والتنفيذية الاتحادية والولائية والتشريعية التي كانوا يشغلونها قبل الانفصال، وبسبب أوهامهم هذه رفع التمرد في النيل الأزرق السلاح ومن قبله في جبال النوبة بولاية جنوب كردفان، واتسم أحد خطابات الأستاذ علي عثمان في الدمازين بالشدة واتسم خطابه في كادقلي بالمرونة، وقد ألقاه عند افتتاح المجلس التشريعي للولاية، أي أنه أراد أن يؤكد بهذين الخطابين أنهم يملكون أداتي الشدة واللين، ويداً تحمل السلاح وأخرى ترفع غصن الزيتون، وفي كل الأحوال فإن الجميع يتوقون للسلام وطي صفحات التمرد، ولا ريب أن سكان هاتين الولايتين قد أدركوا قبل غيرهم أن السلام يعني الاستقرار والتنمية والبناء والتعمير، وأن الحرب تعني الخراب والدمار وإزهاق الأرواح، وأن بعض الخبثاء المتعطشين للسلطة والجاه وهم من خارج هاتين الولايتين يريدون الصعود على جماجم الأبرياء من أبناء الولايتين، وبدفع من بعض الجيوب في دولة الجنوب الوليدة وبدعم من القوى الاستعمارية الأجنبية. ونرجو أن يجعل الله سبحانه وتعالى كيدهم في نحرهم، ونأمل أن يؤوب الجميع لصوت العقل، وتُرفع أغصان الزيتون، ويعم السلام الذي تعقبه النهضة الشاملة والاستقرار والتنمية والعمران. وفي الأنباء أن السيد النائب الأول سيقوم بزيارة لولاية شمال كردفان، والمؤكد أن الأبيض تقع وسط السودان، بل أن الخريطة وكثير من الجغرافيين يؤكدون أنها في وسط السودان. وقد أطلق الأستاذ محمد المكي إبراهيم على إحدي قصائده الشهيرة اسم «قطار الغرب». ولعل التسمية ترجع إلى أن الرحلة بين الخرطوم والأبيض كانت تستغرق في ذلك الزمان حوالى ثلاثين ساعة، لأن القطار كان يتوقف في محطات وسندات كثيرة وينتظر لفترات طويلة مملة، أما الآن فإن بإمكان المرء أن يذهب إلى الأبيض ويعود في نفس اليوم، ولو كتب الأستاذ محمد المكي قصيدته الآن لسماها قطار الوسط أو سماها «بص الوسط السياحي المريح» ورغم سهولة المواصلات الآن إلا أن قطع المسافة بين الأبيض والفاشر أو الأبيض ونيالا يستغرق عدة أيام، وقد أعددت دراسة عن مدينة الأبيض وقفت فيها على تاريخها ومعالمها وأعلامها وسبل كسب العيش فيها والخدمات والآداب والفنون ... إلخ، وتؤكد الدراسة أن الأبيض مدينة وسطية وتعتبر أكبر سوق للصمغ العربي قبل أن يصيب هذه السلعة النقدية المهمة ما أصاب الذهب الأبيض. إن زيارات السيد النائب الأول تأتي والسودان يجابه تحديات كثيرة يقف على رأسها جميعاً في الوقت الراهن جنون الأسواق وفوضى الأسعار، ولأول مرة يبدو التململ والغضب الشعبي واضحاً، وهي معضلة إن لم تجد العلاج الناجع السريع تعتبر أخطر من التمرد وحمل السلاح، وأخطر من تهديدات وتحرشات القوى الأجنبية، ويخشى كثير من الحادبين على مصلحة البلاد إذا لم توجد معالجات لهذا الشر المستطير أن ينفجر فجأة تسونامي يؤدي لفوضى عارمة لا يعلم مداها إلا الله سبحانه وتعالى، وقد أُهملت الزراعة بشقيها المروي والمطري والحيواني، وحدث للمشاريع الزراعية المروية ما حدث، وكما يقول المثل الروسي «لا تبصق في ماء البئر الذي تشرب منه فقد تعود للشرب منه مرة أخرى»، وعلى سبيل المثال فإن مشروع الجزيرة وامتداد المناقل يعتبر من الأصول الاقتصادية القومية الكبرى، وفوائده تعود للسودان كله، فهل نطمح في زيارة يقوم بها السيد النائب الأول ويفتح حواراً منضبطاً مفتوحاً مع المزارعين وكافة المنتجين والاستتشاريين والمتخصصين وأهل القضية الحقيقيين، يكون بداية لتصحيح المسيرة، وكما يقولون «إذا كان العضم موجود اللحم بجود».