شبه الأزمة التي تتبدى الآن بين اتحاد العمال ووزارة المالية، هي لا شئ سوى حالة متأخرة جداً من مخاض عسير تكاد تمر به معظم أجهزة الدولة«ومن ضمنها اتحاد العمال والبرلمان شاءوا ذلك أم أبوا»، بعد أن تعسرت كل المحاولات الطبيعية لتبييض وجه هذه الأجهزة أمام الرأي العام. وما هو معلوم بالضرورة، أن الحالة الاقتصادية المتأزمة التي تمر بها البلاد الآن، هي حالة لا ينكر ولو مكابر أنها لم تكن وليدة الأمس أو اليوم. بل هي تراكم لسياسات اقتصادية خاطئة تتحمل وزرها الكثير من الجهات. ولقد تقبل رجل الشارع كل الإجراءات القاسية لترميم تشوه الاقتصاد منذ خروج «بترولنا»الذي دفع الشعب كله، دم قلبه لاستخراجه، فإذا به يصبح ورقة مساومة في يد لا تعرف معنى الوفاء، تقبل الشارع ذلك وصبر وصابر في انتظار أن ينصلح الحال، ولكن ما لا يمكن قبوله أن تتحول الأجهزة التي من المفترض أن تكون في صف المواطن إلى أجهزة تبرر الأخطاء للجهات التنفيذية، وتمرر معالجاتها للأزمات التي تصنعها بيديها دون مراعاة لطرف هو في أمس الحاجة لأن تكون هذه الجهات صوته الرسمي و«السلمي» في ظل ضغوط كادت تعصف بكل بنيانه الاجتماعي، وأدت لإفراز الكثير من الظواهر السلبية التي ما فتئ المشفقون علي مجتمعنا يحذرون منها. وليس أدل على ذلك من الجلسة الأخيرة للبرلمان الذي انتخبه الشعب ليكون صوته لدى التنفيذيين، والتي صادق فيها على إجازة ضريبة المركبات بعد أن أسقط«أو هي سقطت من تلقاء نفسها لاعتبارات دستورية»، الزيادة في رسوم ترخيص السيارات. وقد كان يوم المصادقة يوماً مشهوداً علا فيه التصفيق الحار من قبل السادة النواب لا ندري لماذا، والمواطن الذي هو أصلاً يعاني ضائقة اقتصادية قد حُمّل المزيد من الرهق، لا ندري هل التصفيق كان لوزارة المالية التي استطاعت أن تجد لها مورداً جديداً للميزانية دون أن تخرق الدستور، أم هو تصفيق لأن الحرج بالموافقة على هذا الخرق، قد رفع عن البرلمان؟؟والمقايسة على هذا الوضع في العديد من الأمور متشابهة وكثيرة، ومن ضمنها«حكاية» فاتورتي الماء والكهرباء اللتين زُوٌّجتا زواجاً كاثوليكياً برغم أنفهما، وسيق في ذلك الكثير من الدفوعات للتبرير، لكن لعل أكثرها«وجعاً» هو مقارنة وضعنا الاقتصادي بأوضاع الكثير من الدول«المتقدمة اقتصادياً» والتي دمجت الفاتورتين، فكيف تتم المقارنة بين الحالين دون مقارنة كل العوامل الأخرى، وأولها مستوى دخل الفرد ومستوى المعيشة في هذه الدول. وكيف يُدفع بأن الخدمتين كانتا خدمة واحدة في بداية تقديمهما في الأربعينات«أو هي كذلك» مع العلم أن الجنيه السوداني في تلك الأزمنة كان يساوي أكثر من ثلاثة دولارات !! إن ما يثير الكثير من الغضب بخصوص موضوع زيادة الأجور، هو أن الاتحاد لم يكن يبدو أنه جاد في مطالباته، أو على أفضل الظنون لم يكن كثير التحمس لتصعيد مطالباته والضغط على الجهات المسؤولة وأولها مجلس الوزراء، وإلا، فكيف ترتفع وتيرة التصعيد الآن بعد أن رُفعت الأقلام وجفَّت الصحف على الميزانية الجديدة، كيف بعد أن أُجيزت من قبل«برلماننا» ولا سبيل لمعالجة الأجور «إن أريد ذلك» الآن إلا بمرسوم وتدخل رئاسي؟؟ أين كان الاتحاد قبلها؟؟ وبرغم كل ذلك فيُحمد للاتحاد تصعيده للمسألة وإن جاء متأخراً، ذلك أنها أصبحت في غاية الحساسية في ظل وضع اقتصادي متفاقم التأزم، ولا بد من وجود معالجات سريعة وحاسمة لهذا الأمر، فكيف يمكن لعامل يتحصل على«165» جنيهاً كراتب، كيف له أن يتدبر أموره، وأدني ضروريات الحياة لا تقترب حتى من هذا الرقم، وهو ما أكدته دراسة اتحاد العمال التي أثبتت أن الحد الأدنى للأجر الذي يمكن للعامل محاولة التعايش به لا يقل عن مليون وتسعمائة وخمسين جنيهاً هذا، حين أُعدت الدراسة ، فالفجوة بين الأجور وتكلفة المعيشة تزداد اتساعاً يوماً وراء الآخر. إن الأمر لم يعد ترف مناكفة بين اتحادات أو نقابات وبين جهات تنفيذية، بقدر ما هو يدخل في صميم قدرة الناس على الاستمرار في هذه الظروف التي لا ندري هل يحس بها التنفيذيون أم ماذا؟؟ كما أن تهديدات وزارة المالية برفع الدعم عن السلع وزيادة الضرائب في حال زيادة الأجور، هي تهديدات ليست مقبولة بأي حال من الأحوال، فإن كان مسؤولو الوزارة غير قادرين على تحمل مسؤوليتهم إزاء مناصبهم، فما أوسع الفسحة وراءهم، وليتركوا لآخرين المجال ليمنحوا المواطن بعضاً، بعضاً فقط من إمكانية العيش بكرامة. ومن لا يدرك مرارة الحياة الآن من المسؤولين عليه أن يمر بجولة«سريعة» في الكثير من المناطق ليدرك كيف«يُباصر» الناس الحياة بكل تفاصيلها من مأكل ومسكن وتعليم، والأدهي حين المرض!! لقد أكد الكثير من خبراء الاقتصاد أن مجرد زيادة الأجور لن تحل المشكلة، بل ستؤدي إلى ارتفاع التضخم الذي بلغ الآن معدلات قياسية ويستمر وهو بدوره سينعكس سلباً على الأسعار، ومن ثم مجدداً على المواطن، كما أن هناك الكثير من الفئات التي هي خارج الوظيفة الحكومية، وبالتالي لن تتأثر بالزيادة وإن وجدت، ولهذا فهي معادلة صعبة جداً تتطلب حلولاً اقتصادية تستطيع إنجاز الكثير وعلى أكثر من صعيد، وهي لذلك بحاجة إلى عقول اقتصادية جبّارة تستطيع إدارة الأزمة بحنكة ودراية بكل تفاصيلها، خاصة تلك التي تتعلق بحياة الناس، كما أنها بحاجة إلى مزيد من الانضباط والترشيد في الصرف الحكومي، حيث أنه وبرغم كل شئ تُستحدث أوجه صرف جديدة في كل يوم« ليس أدل على ذلك من الولايات التي تُفرَّخ باستمرار بكل ما يستتبعه ذلك من منصرفات». إن تفَهُّم الوضع الاقتصادي الذي يعانيه الوطن ويحمله الناس هماً يومياً، لا يعني إلغاء حقوقهم في حياة كريمة خاصةً للأكثرية من العمال وموظفي الخدمة العامة، الذين يجعلون الدماء تُضخ في جسد الدولة برغم كل شئ.