أستمع كثيرًا، واستمتع أكثر، وأفيد فوائد جمة، من حِلَق البرنامج الثري، الذي يديره الأستاذ هاري كرايسلر، من معهد الدراسات العالمية بجامعة كالفورنيا بيركلي، مع بعض عِلْية أهل العلم، والأدب، والفن، والرياضة. وهو برنامج ظل الأستاذ يبثه، بلا كلل، منذ أكثر من عشرين عامًا. وبقدر ما يدهشني تنوع علم ضيوف البرنامج، واقتدارهم الفكري، يدهشني اقتدار المضيف، وتدفق علمه هو الآخر. وقد اعترف الأستاذ كرايسلر بأنه، مثل سائر المذيعين الأمريكيين، يقضي وقتًا طويلاً في التحضير، لاستجواب من يستضيفهم من الخبراء والنجوم. وانه يجهد نفسه في درس سيرهم جيدًا، والاطلاع بتعمق، متأمِّل، على آثارهم المنشورة، ويسأل عنهم من يعرفون خباياهم. ولذا لا ترى الأستاذ كرايسلر يفشل، ولو مرة واحدة، في توجيه الأسئلة العميقة ذات مغزى إلى ضيوف برنامجه. وفي بعض أحايين، يدهش كرايسلر ضيوفه، ويدلهم على ما لا يعرفونه عن أشخاصهم، وعن مصادر إلهاماتهم، وتوجهاتهم الفكرية والعملية. ولا عجب من أمر كهذا فقد كان لنا في تراثنا «الإعلامي» الأدبي القديم أفراد من مثل هذا. منهم رواة الشعر ومذيعوه. وفي طليعتهم المذيع القديم أبو الفتح عثمان بن جني، رحمه الله. وقد روي أن أبا الطيب المتنبي كان يعجب من علم ابن جني بشعره، ويقول: ابن جني أعلم بشعري مني! فالمذيع القديم ابن جني، الذي كان يعنى بإذاعة شعر المتنبي، وترويجه في الآفاق، كان أخبر من المتنبي بدقائق شعره. وكان أبو الطيب يجل هذا المذيع اللامع، الذي شرح ديوانه مرتين، الشرح الكبير، الذي ضاع إلى الأبد، فيما يبدو، والشرح الصغير، الذي وصل إلينا، ويقول عنه: إنه عالم لا يعرف قدره كثير من الناس. وكان إذا سُئل عن شيء من نُكات النحو، والصرف، والعروض، في شعره الشرود، يرد على سائليه قائلا: سلوا صاحبنا أبا الفتح. ولقارئ هذا أن يتخيل أحد مذيعينا السودانيين، البسطاء، وهو يسأل شاعرًا عن شيء من غوامض شعره، أو من شعره شديد الوضوح، ويرى كيف يفصح المذيع البسيط، بسؤاله هذا، عن جهله المركب، بشعر الشاعر، وخلفية الشاعر، وفن الشعر في الأصل! فمذيعونا غير الأكْفَاء، لا يكفون عن التكلف، ولا يكلفون أنفسهم أن يتعلموا، ولا أن يبحثوا، ولا أن يفكروا، ولا أن يسألوا. وقديما قيل، في أحسن القيل: «إِنَّمَا شِفَاءُ الْعِيِّ السُّؤَالُ»! «رواه أبو دواود، في سننه، عن جابر بن عبد الله». ومرة أضاف المذيع المفكر كرايسلر نطاسيًا بارعًا، كان يرأس قسم الجراحة، بكلية طب جامعة أريزونا، أصدر كتابًا ذكر فيه إن أكثر المرضى الذين عالجهم، في حياته المهنية الطويلة، فشل العلم الحديث في تفسير أسباب معافاتهم من عللهم المضنية. وفي غضون مراجعة الأستاذ كرايسلر لسيرة ضيفه، لحظ أن الضيف كان قد درس في أثناء تعليمه الجامعي الباكر، مادة مع الأستاذ رود سيرلنغ، وكان الكتاب المقرر في تلك المادة، ما لعل اسمه «ضياء الغسق» أو «منطقة ضياء الغسق». The Twilight Zone ومواد الكتاب، في الغالب، مواد أسطورية الطابع، وتتعامل بجرأة لافتة مع قضايا ما وراء الطبيعة. وفجأة سأل كرايسلر ضيفه، إن كان ذلك الكتاب، الذي درسه قبل عشرات السنين، قد جعله حساسًا، بشكل خاص، إزاء القضايا التي يفشل العلم في تفسيرها؟! فبهت العالم بهذا السؤال العجيب، المباغت، لأنه ظل حتى تلك اللحظة، يجهل مصدر إلهامه الحقيقي. وما خطر بباله أنه منبعث من الكتاب، الذي قرأه في وقت بعيد مضى، وهو في مطالع عهد الشباب! وقد ذكر كرايسلر ان ضيفه ظل لوقت طويل مذهولاً من هذا الاكتشاف، وأنه بادر فور انتهاء الحوار التلفازي، بمهاتفة زوجه، وإخبارها بأنه قد عرف أخيرًا سر الإلهام، الذي دفعه لتقصي تلك الظاهرة العجيبة في مرضاه، والذي ألح عليه في تأليف كتاب كبير، شهير، عنها! فهكذا يكون الحوار متكافئًا، وجديرًا، وخطيرًا. بل هكذا يجب أن يكون المحاور، أخبر، وأقدر، ممن يضيفه على طاولة الحوار. ويجب ألا يكتفي المذيع، كما يكتفي أكثر مذيعينا، بتنسيق هندامهم، والتأكد من شياكته وأناقته. وأن يبذلوا في سبيل تنسيق عقولهم، وترويض الألفاظ، بعض ما يبذلونه في سبيل تنسيق الهندام. وبالجملة فنرجو أن نلقى في بعض مذيعينا، التلفازيين منهم خاصة، أساتذة، وأدباء، ومثقفين، ومفكرين، يجعلون للحوارات فوائد جمة. ويستخرجون من ضيوفهم معلومات نافعة لحضرات السادة المشاهدين. ونرجو أن يُمنع من أداء المهام الحوارية السامية، صغار الإعلاميين، غير المثقفين، وغير المدربين، وغير الجادين. أولئك الذين لا يكلفون أنفسهم بالتحضير، ولو لساعات قلائل، قبل إجراء حوارتهم النمطية، السطحية، الممجوجة.