ملأ شاعرنا الغرِد الهادي آدم، رحمه الله، دنيا الفن، وشغل أناسها، مذ رددت قصيدته المعجبة، حنجرة أم كلثوم. فلنشغل الناس اليوم بفريدة أخرى، من فرائده الحسان، التي مدح بها سيد بني الإنسان، المصطفى المجتبى، المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد، رسول الله، صلى الله عليه وسلم. إن بزوغ نور المصطفى، صلى الله عليه وسلم، قد طوى ليالي الأوهام، وإن من رأى نوره رأى شمسَ النَّهار بلا ريبٍ وإيهام، كما يقول الشاعر. والإيهام من خَطَراتِ القلب، والجمع أَوْهامٌ، وللقلب وهم. وتَوَهَّمَ الشيءَ هو تخيَّله وتمثَّلَه، كان في الوجود أَو لم يكن. يقول سميُّ الهادي، صلى الله عليه وسلم، مخاطبًا الهادي، صلى الله عليه وسلم: من لي برؤياكَ في مرآةِ أحلامي أمكرمي أنت بالرؤيا وإن عبرَت إذن لأبصرتُ وجهاً من رآه رأى وجهاً يصلِّي عليه اللهُ في ملأٍ فيه هُدي اللهِ يسعَى فاستجاب له وأنكرته عيونٌ طالما عَمِيَتْ ونورُ محياك يطوي ليلَ أوهامي فهي الشفاءُ لأدوائي وأسقامي شمسَ النَّهار بلا ريبٍ وإيهام من الملائكِ حفَّت عرشَه السامي من قد هدَى اللهُ من وحيٍ وإلهام عن الحقيقةِ في صَدٍّ وإحجام! وهو في هذا المعنى فالشاعر مسبوق، بلا ريب، بإقبال الهندي، رضي الله تعالى عنه، القائل: قد كان هذا الكونُ قبلَ وُجودنِا روضاً وأزهاراً بغيرِ شَمِيم والوردُ في الأَكْمامِ مجهولُ الشَّذى لا يُرتجَى وردٌ بغيرِ نسيم بل كانتِ الأيامُ قبلَ وجودِنا لَيلاً لظالِمِها وللمظلوم لما أطلَّ محمدٌ زكتِ الرُّبَى واخضرَّ في البستانِ كلُّ هشيم وأذاعتِ الفردوسُ مكنونَ الشَّذى فإذا الورَى في نَضْرَةٍ ونعيم! وفي حديث الهجرة، كأنما نظر الشاعر الهادي، إلى الشاعر العاقب، حفظه الله، وما أدري إن كان العاقب زميلاً أم شيخًا رائدًا للهادي. قال الهادي: يا يومَ هجرتهِ والدارُ يَكنُفُها إذ رنَّقت سِنةٌ طافت بأعينهم لم يسمعوا الليلَ إذ باتت تُمزقه ولم يروْا يومها طيفين قد مرَقا ولا فِراشاً عليه باتَ يخلُفه سارا فهبَّت كلابُ الصَّيد خلفَهما لو أنهم نظروا من تحتهم لرأوْا وصاحبُ الغار يُسْلِي روْعَ صاحبه يقولُ يا صاح إن اللهَ حارسُنا حقًّا لقد صَدَقتْ فيهم مقالتُه من يحمِه اللهُ فهو المُحتمَي أبداً رهطٌ لسفك الدِّما من حولها ظام من الكَرى فغدوْا أشباحَ أجسام ذاتُ النطاقين في عَقدٍ وإبرام من خُطةٍ أحكموها أيَّ إحكام سيفٌ من الله ذو بطشٍ وإقدام تَعْدُو وفي كلِ شِبرٍ وقعُ أقدام ما كان أعماهمُ عن لحْظه عام أكرِمْ بذلك من حُبٍّ وإعظام واللهُ فوق العِدَا إمّا رَموْا رام لمَّا تولَّوا بجُرحٍ غَيرِ مُلتام وما لراجٍ لغيرِ اللهِ من حَام! وقال العاقب: ما ربَع مكةَ إن قَرَّ الأليفُ به ربعٌ ولا في حَواشِي ليلِها سَمرُ صوتُ السَّمواتِ هزَّ البيدَ فانبعثتْ عَزائمُ تَابعَتْ ما سَطَّر القَدر سجَى الدُّجى خاشعًا والبيدُ أرعَشَها سُهدُ الليالي وأضنَتْ سُوحَها الفِكَر والرَّاسياتُ على البَطحَاءِ تغمُرُها سُودُ الظِّلالِ وفي أعماقها الحَذَر والرِّيحُ تمشي الهُويْنى في الشِّعابِ فما يَهتزُّ من رَوْحِها نَجمٌ ولا شَجر توَجُسٌ ليلُها غَدرٌ مَرابعُها وفي سَوادِ دُجاها يَكمُن الخَطر! وهو نفسه كأنما نظر، فيما بدا، عندما نظم قصيدته السَّنية هذه، إلى نظم لأحد كبار أمراء الشعر، صاحب السيادة، الشاعر الفحل، عمر أبي ريشة، في رائعته الباذخة، التي رثى بها أحد الأكابر، من أمراء دولة الشعر، بشارة الخوري، وهي التي يقول في مستهلها: نديُّكَ السَّمحُ لم يُخنقْ له وَتَرُ ولم يَغبْ عن حواشي ليلِه سَمَرُ بناتُ وحْيكَ في أرجائه زُمَرٌ يَهزُّها المُترفانِ الزَّهوُ والخَفرُ تيتَّمتْ وهي لا تدري ونَشوتُها من كلِّ عُنقودِ ذكرى كُنتَ تَعتصرُ رَواقصٌ تَحمِلُ السَّلوى وتَسكبُها وليس تَعلمُ ما الدَّنيا وما القدر علَى تأوُّدِها الإغراءُ منتفضٌ وفي تلفُّتِها التَحنانُ منهمِر ونحنُ من حولِها أنضاءَ غُربتِنا وأنتَ عنَّا وَراءَ الغَيبِ مُستَتِر نُبدِي لها غيرَ ما نُخفي ولوعتُنا تكادُ في صَمتِها للشَّوق تَعتذر! وفي ذكرى ميلاد سيد الخلق، صلى الله عليه وسلم، يسعدنا أن نذكر الخلق، بهذه الخريدة الشائقة، التي جادت بها قريحة شاعرنا الكبير، الهادي آدم، رحمه الله. ويا لسعادة هذا الشاعر المنيف، الذي حظي بهذا المجد الكثيف، بمدحه هذا الطلي الشريف، لسيدنا العدناني، مفتاح الجنان، صلى الله عليه وسلم. أجل! ما أسعده، وما أشقى كل شاعر حُرم نعمة مدح المصطفى، صلى الله عليه وسلم. وقد صدق الشيخ النبهاني، رحمه الله، عندما قال: ما امتنع ولا مُنع من مدحه، صلى الله عليه وسلم، من جمهرة أهل القريض، إلا كل شقي منهم وسفيه، من أمثال المتنبي وأبي تمام. بلى! وقد كانت من كراماته، صلى الله عليه وسلم، أن امتنع عن مدحه، أمثال هذين الشاعرين الخبيثين!