السابعة أو الثامنة مساءً هو الموعد المعتاد للكثيرين من غير موعد انتهاء الدوام اليومي والاجتهاد لمساعي الرزق في بلدي الحبيب، ففي مقر سكني نتجاور نحن ثمانية أصدقاء وأحباء جميعنا له عمل خاص وقد تعودنا ألا تصطف سيارتنا إيذاناً بعودتنا إلى أسرنا إلا بعد ذلك الزمن وقد يزيد وحتى أبنائنا وزوجاتنا يتساءلوا عند وجود سيارة عمو طارق أمام داره قبل ذلك الوقت المعتاد ولعل معظمنا يعي أن الرزق وتحصيله في السودان يحتاج لذلك المجهود الخرافي، وأذكر أنني في عام «2004م» أُتيحت لي فرصة بأن أقيم بأسرتي في الإمارات وتحديداً في إمارة رأس الخيمة تلك الإمارة الوديعة الهادئة وكنت أخرج من مسكني عند الثامنة وأبدأ دوامي في الثامنة والنصف أرجع في الواحدة وأتناول وجبة الغداء بنظام مع أطفالي وآخذ قسطًا من الراحة وأرجع للدوام في الخامسة وأظل به حتى الثامنة لأرجع وآخذ أطفالي للترفيه والتسوق وزيارة الأصدقاء بكل ارتياح وكما تذكرني أم ساجد بأنها طيلة الثمانية عشر عامًا عمر ارتباطي بها لم تعش حياة يحفها الترابط والاجتماع الأسري كما عاشته في ذلك العام وياله من عام بذكرياته الجميلة. أرجع لموضوعي الأساسي وأنا راجع إلى داري لم يكن في بالي غير شيء واحد إن غداً اليوم الأول من العام «2013م» وأنني سأنعم براحة إجبارية منّ بها علينا مجلس الوزراء بقراره المعتاد من كل عام وقبل أن أقترب من الوصول إذ باتصال يفسد عليّ إحساسي بفرحة العطلة وحاجتي لجمة طويلة فقد طلب صغاري وأمهم الخروج كما خرج الآخرون لمشاهدة ختام العام واستقبال الجديد على الهواء الطلق وتحديداً في خرطوم الفيل!! لم أتردد في تلبية رغبتهم كما تعودت ألا أرفض لهم طلبًا رغم ما يغالبني من النعاس والإرهاق!!! المهم خرجنا بفرحة ولمة يندر أن عشتها معهم عن قريب وما إن دخلنا الخرطوم بالليل إلا وكأننا ندخل منى في أول أيام التشريق وإن جازت المقارنة والتعبير.. أفواج من البشر ماشين وجايين.. راجلين وراكبين!!! شباب.. أطفال.. شيوخ.. نساء كاسيات عاريات.. مناظر لم نرها إلا في بلاد الفساد والضلال.. ظللنا نجوب الشوارع المتعارف عنها مظاهر هذا الهراء والعبث!! شارع المطار والفلل الرئاسية!! كنت أسأل نفسي في صمت من أين أتى هؤلاء بهذه الخلاعة في الهندام ضحكات وصراخ يوحي عن تفكك أخلاقي نعيشه!!! ولفت نظري عربات ودوريات الشرطة وهي محملة بجنود مدججين بسلاحهم وهم يحتلون موقعًا إستراتيجيًا للنظر والتمعن وهم صامتون ساكنون كأن الأمر والإخلال بالأمن والمظهر العام لا يعنيهم برغم أن القانون منحهم حق المساءلة والتقويم والمحافظة على الذوق العام!! وأنا أزحف وأتجرجر خلف رهط تلك الآلاف من السيارات والراجلين إذا بصراخ يتعالى بالقرب من سيارتنا حتى ظننا أن مكروهاً حدث لأحد أطفالي!! لأشاهد منظرًا لم أشاهده إلا في أفلام هوليوود بين فتاة وبوي فرند كان ممسكًا بيدها رأيناهم قبل صراخهم وعلقنا عليهم بلغة لا يفهمها صغارنا خوفاً من خدش حيائهم!! نظرت لصغيرتي وبنتي الوحيدة بخوف وفزع أبوي وقلت في سري ربنا يحفظك من شرورهم وعودة!! جبنا شارع المطار مرتين ودخلنا شارع الفلل لنشاهد ما هو أفظع وأمرّ عبث فراغ.. فوضى!! غباء حتى في ترجمة الإحساس بمعنى الاحتفال!! والغريبة معظمهم من الفئة العمرية المتوسطة أي ما بين الخامسة عشر والثامنة عشر ربيعاً وجميعهم بلا رقيب أو حسيب!! اقتربت خواتيم الساعات من نهاية العام وتمنيت تلك الدقائق أن تسرع لأنهي رغبة أبنائي بسلام دون إيذائهم بصرامتي العسكرية التي تعودت عليها بدأت أبحث عن مخرج من ذلك العبث الأخلاقي واقترحت عليهم أن نذهب لتناول العشاء في أحد المطاعم بالعمارات لعلني أجد هناك ما هو أهدى وأفضل سلوكاً وسكينة وليتني لم أذهب وجدت ما هو أدهى وأمرّ!! شباب وشابات في ربيع العمر مجموعات مجموعات بدعوى التحرر مجتمعين ومتماسكين ورأيت أحدهم وقد تعدى سن البلوغ جالس لإحداهن في أرجلها وأمام الناس وتتعالى الضحكات والصرخات!!! وإحداهن تشارك آخر الآيسكريم بملعقة واحدة وتذكرت النكتة التي نسبت لشيخنا الجليل محمد أحمد حسن «الدين النصيحة» فقد أصبحت أخته في الرضاعة!! يعني حرمت عليه لأن الآيسكريم فيه من مشتقات الحليب!! حقيقة تململت ولولا إحساسي بجوعة تسللت ببرودة الجو لأمعاء صغاري لخرجت من ذلك المكان.. تركتهم بعد أن طلبت لهم ما يشتهون ودلفت لخارج المكان لأجد تجمهرًا غير عادي ومنظرًا بديعًا حافلة من نوع الكريز بداخلها ثلاثة أو أربعة من الشباب الملتحين تبدو عليهم علامات الوقار والتدين ومكبر صوت تقليدي أعلى العربة وأحدهم يمسك بالمايك ويعظ ويرشد وينهي عن الفحشاء والمنكر ويحذر الشباب مما هم فيه من غفلة ويدعو العاريات المتبرجات المنحلات للعودة إلى الفضيلة والالتزام، ظللت أستمع لكلماته التي مزج فيها التدين والنصح بمواكبة لعولمة الانحلال ليبلغ ما يريد ببراعة وفن خرافي تحدث مع من رحمه ربه وتجمع للاستماع تحدث عن مهند ونور والمسلسلات الخليعة وعن السجارة الخضراء ومصطلحاتها في الجامعات وعن.. وعن المسكوت عنه الطويل!!! تحركت بعدها في اتجاه شارع المطار لأجد مجموعة أخرى من نفس الشباب والدعاة ولعلهم نظموا تلك الحملة بإتقان وترتيب يشكروا عليه لأجد آخرين وقد ألصقوا في سياراتهم ملصقات ينددون ويحذرون من أن الاحتفال بهذه المناسبة هو تشبه بالنصارى والكفار وأنه حرااام لا ريب فيه وقفت كذلك واستمعت لكلمات ذلك الشاب الورع الذي تحدث بأسلوب جديد وحتى في هندامه استحدث لبسة باكستانية راقية أقرب لواقع الموضة لنظر شبابنا ليقرب القلوب قبل العقول لمن يخاطبهم!! التف حوله عدد كبير من الشباب بعضهم رأيته متأثراً ونادماً لحاله وبعضهم أحسست به وبمكابرة النفس والهوس الشيطاني الذي يتملكه، أما البعض الساقط فكان يستخف بكلمات ذلك الشاب الملتزم!!! تبقى للعام أقل من ساعة زمن لينتهي وينقضي معه عمر الزهور لهؤلاء الشباب وأسرعنا نطوي المسافات لنلحق بمظاهر الاحتفال تلبية لرغبة من أحببت!! وصلنا شارع الفلل الرئاسية الهرج والعبث والغناء والصراخ يزداد ويستمر ولكن لعلهم أرادوها معركة تكافئية وجدناهم هناك نفس الشباب المخلصين الواعظين المذكرين للضالين فلعلها تذكرة تنفع المؤمنين وقد كثرت سياراتهم ومكبرات صوتهم وتعالت أصواتهم القوية انتبهوا!! ارجعوا!! اهتدوا!! احذروا!! بنفس الحماس والاجتهاد والوجوه الصبوحة لنشهد بذلك مظهرًا جديدًا من مظاهر الموعظة والاحتفال!!! وليتكم عشتم معي تلك الثواني النادرة ففي انقضاء آخر ثانية من العام «2012م» والجميع يصرخ ويرقص ويتمايل ويتمايع الساقطين في الهواء الطلق دون الاكتراث لأي شيء تعالت مكبرات تلك المجموعات بالدعاء والتضرع لله عز وجل بأن يهدي القوم الضالين وينجي المسلمين ويحفظ بناتنا وبنات المسلمين لتنطلق بها آيات من الذكر الحكيم أخرست وأسكتت هرج الشياطين وأخمدت نار المنحرفين بفضل القرآن الكريم ليكون بذلك نهاية لتلك الضلالات وبداية لعهد جديد ينبغي للدولة الالتفات لتلك المظاهر الدخيلة والانتباه لحسم الأمر ورغم ما نبه عليه أئمة المساجد قبل تلك الفوضى ونبهوا القائمون بأمر الدولة على عدم مشروعية تلك الاحتفالات، وقد كنت حاضراً ومستمعاً لخطبة مولانا وشيخنا الجليل الأستاذ كمال رزق في الجمعة التي سبقت ذلك الفساد، ولكن لم تسمع الدولة لإمام المسجد الكبير فكيف لها أن تسمع مناصحة أئمة الحاج يوسف ومدينة الفتح الأم درمانية البعيدة وقرى الدويمات والمكنية؟. فلا بد أن نعي ما نحن فيه الآن بصدق مع النفس ولنشد من أزر هؤلاء الشباب الخلص المجاهدين الذين جاهدوا بالكلمة وحاولوا خلق جو أخلاقي معافى وسنوا سنة حسنة للمناصحة والإرشاد وظلوا في كل المواقع يقابلوا الضلال بالهدى ويصنعوا لنا (نيوو.. لووك) حديث كما فعلوا ولكن بفهم إسلامي وأخلاقي راقي الفرق كبير بين نيو لوك المرجفين المفسدين فهم يقصدوا تغيير منظرهم بحداثة التسريح أو التمليس ونحن نقصد به حداثة التسليح والتمكين لقيم الفضيلة والعفاف.